التشاركية بين القطاعين العام والخاص.. وفيروس الخصخصة!
«تروجان هورس»، أو حصان طروادة، هو فيروس ربما وجدته يوماً على جهاز الكمبيوتر الخاص بك. وفيروس «تروجان هورس» هو عبارة عن شفرة صغيرة يتم تحميلها لبرنامج رئيسي من البرامج ذات الشعبية العالية، ويقوم ببعض المهام الخفية، غالباً ما تتركز على إضعاف قوى الدفاع لدى الضحية أو تقويضها ليسهل اختراق جهازه وسرقة بياناته، بحسب تعريفه على الموسوعة الحرة «ويكيبيديا».
وفي أدبيات الاقتصاد فإن ما يسمى المشاركة بين القطاعين العام والخاص هو أحد الأساليب المعتمدة للخصخصة، لكنه أسلوب خاص يتميز باستمرار وجود الدولة «بصورة ما» في النشاط الاقتصادي، الذي عادة ما يتجاوز النطاق الإنتاجي العادي إلى المرافق والخدمات العامة ومشروعات البنية الأساسية، وهو بالتالي أكثر المراحل تقدماً وعمقا في الإيمان بالقدرة والدور الاقتصاديين للقطاع الخاص.
لكن الأهم من هذا هو، كما يشير التشبيه بفيروس حصان طروادة، الذي أقتبسه من إحدى الدراسات المهمة عن الآثار الاجتماعية لهذه السياسة، هو ما تستدعيه التسمية من وقع إيجابي بعيداً عن كلمة الخصخصة المكروهة بالنسبة لكثيرين.
وفي مصر ظهرت الكلمة في خطاب الوزراء وقيادات الحزب الوطني مراراً وتكراراً على مدى السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد أن أصبحت أشكال الخصخصة المباشرة تواجه بمعارضة كبيرة تكاد توقف بيع القليل الباقي من محفظة الدولة، وبالذات بعد أن جربت الدولة أسلوباً جديداً يتميز بقدرته على كسب التأييد الشعبي، لما ينطوي عليه من توزيع للأصول على المواطنين، هو مشروع الصكوك الشعبية، فلم يصمد إلا قليلاً أمام موجات الرفض من المعارضة وداخل الحزب الوطني على حد سواء. ولم يبق هكذا أمام الحكومة وحزبها إلا المشاركة بين القطاعين العام والخاص.
ولم تقترن الخصخصة في أية لحظة بالمشاركة بين القطاعين العام والخاص في الإشارات المتكررة من الوزراء ولا في النقاش التحضيري المحدود لمشروع القانون، الذي أقر مؤخراً من حيث المبدأ وفى هدوء شديد من مجلس الشعب. وإنما ارتبطت الفكرة بالأساس بعدم قدرة الدولة على تمويل المشروعات التنموية المطلوبة والدور الاجتماعي المطلوب من القطاع الخاص في التنمية وخدمة المجتمع..الخ.
وهذا التبرير كلاسيكي فيما يتعلق بهذا الأسلوب من الخصخصة. يضاف إليه تبرير آخر تبوأ مكاناً متأخراً في خطاب الحكومة عن مشروع القانون: هو أن كفاءة القطاع الخاص أعلى من الدولة في إدارة النشاط الاقتصادي. وظهر هذا المنطق في مقال نادر كتبه رئيس لجنة الخطة والموازنة أحمد عز مؤخراً في «المصري اليوم»، اعتبر فيه أن المنطلق الأول وراء القانون هو «تغير دور الدولة». ولا تدع خيالك يذهب بعيداً. فتغير دور الدولة هنا هو معكوس ما يحدث في العالم حالياً، من عودة للدولة التي تؤمم البنوك والمؤسسات الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة وغيرها بعدما أسقطها القطاع الخاص مهدداً بمخاطر نظامية تهدد الاقتصاد المالي والإنتاجي كله. لكن عز يعيد علينا ما سمعناه مراراً وصار أيقونة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات من القرن الماضي: «دور الدولة يتحول من اللاعب إلى الحَكَم.. الحَكَم في هذه الأحوال تكون لديه سلطة المنح والمنع.. التأكد من سلامة المنافسة.. الأهم من ذلك، تكون له سلطة إظهار الكروت الصفراء مع أي تقاعس.. والحمراء إذا تم الإخلال بقواعد اللعب»، يقول عز.
للأسف هناك فجوة زمنية أو ما يسمى بالإنجليزية Time Lag في منطلقات رئيس لجنة الخطة. فقد كان هو السياسة المتبعة والموقف النهائي قبل 20 عاماً. لكن وأن تقوله بعد الأزمة المالية العالمية، وبعد أن صار أمثال بول كروجمان المعادون لهذا التقدير، يحصلون على جائزة نوبل في الاقتصاد، وبعد أن صارت الحكومات جميعاً تعيد النظر في سياسات «إجماع واشنطن»، فهو الغرابة بعينها. نعم دور الدولة تغير في السنوات الثلاث الأخيرة. لكنه تغير في الاتجاه العكسي.
ولربما كانت خصخصة الخدمات والمرافق ومنها المياه والكهرباء، وهو ما تعدنا مشروعات المشاركة بنسخة منه، سبباً أساسياً في تراجع شعبية الخصخصة أكاديمياً وشعبياً. وتكفي هنا الإشارة إلى عملية دخول القطاع الخاص للسكك الحديدية في بريطانيا. فقد أثبت القطاع الخاص البريطاني أنه غير قادر على توفير التمويل والاستثمارات طويلة المدى، التي يقول رئيس لجنة الخطة في مقاله إنها لا تؤتى ثمارها إلا على المدى الطويل. وبرغم رفع الأسعار على المستهلكين تراجعت الخدمة وزادت حوادث الطرق. ثم اضطرت حكومة بلير في النهاية إلى ضخ مليارات من الجنيه الإسترليني سنوياً كاستثمارات. أما عن دخول القطاع الخاص في مياه الشرب فحدث ولا حرج ولها مقام آخر قريب.
لكن وجود الدولة هنا من خلال ما يسمى بالشراكة مهم جداً. لأن الدولة، كما فعل بلير، هي المسؤولة في النهاية عن ضمان الخدمات الأساسية، وفي الوقت نفسه ستكون مسؤولة عن ضمان الأرباح للقطاع الخاص.
تتحول الدولة في مثل هذه المشروعات مما يسمى بالملجأ الأخير للإقراضLender of Last Resort على طريقة جنرال موتورز وفاني ماي إلى دعامة مستمرة لأرباح القطاع الخاص، الكسول والمتشكك، الذي ستنفتح أمامه دون معارك شبيهة بعمر أفندي، «طاقة قدر» في أسواق تشمل كل السكان في سلع قد لا يستطيع أحد الاستغناء عنها بلا مخاطر تقريباً.
في الأسطورة دام حصار الإغريق لمدينة طروادة عشر سنوات، فابتدع الإغريق الحيلة: حصاناً خشبياً ضخماً أجوف مليئاً بالمحاربين الإغريق بقيادة أوديسيوس، أما بقية الجيش فظهر كأنه رحل بينما في الواقع كان يختبئ وراء تيندوس، وقبل الطرواديون الحصان على أنه عرض سلام. وقام جاسوس إغريقي، اسمه سينون، بإقناع الطرواديين بأن الحصان هدية، فأمر الملك بإدخاله إلى المدينة في احتفال كبير.
احتفل الطرواديون برفع الحصار وابتهجوا، وعندما خرج الإغريق من الحصان داخل المدينة في الليل، كان السكان في حالة سكر، ففتح المحاربون الإغريق بوابات المدينة للسماح لبقية الجيش بدخولها، فنهبت المدينة بلا رحمة، وقتل كل الرجال، وأخذ كل النساء والأطفال عبيداً. ويفعل فيروس «تروجان هورس» فعلاً مماثلاً في أجهزة الكمبيوتر.. فحذار.
«شبكة التغيير/ موقع الشروق الجديد»