التعمية المناخية والخردة العلمية
لماذا تلاشت آمال عقد اتفاق ملزم حول تغير المناخ في كوبنهاغن، حتى قبل التئام المؤتمر؟ توجد الكثير من الأسباب السياسية والاقتصادية لغياب الإرادة السياسية وامتناع الحكومات عن اتخاذ ما يجب اتخاذه تجاه أزمة المناخ، ولا تخرج عن هذه الأسباب حملة «الخردة العلمية» الإعلامية، جيدة التنسيق وضخمة التمويل، الموجهة لحرف الرأي العام، وإيهامه بوجود انشقاق علمي حول قضية التغير المناخي.
لسنوات طويلة، موَّل قطاع صناعات النفط والفحم حملة المعلومات المضللة عن تغير المناخ، تحت ستار مجموعات وهمية شعبوية، إلى جانب المجموعات التابعة مباشرة لقطاع صناعة النفط والغاز، والتي تحمل أسماء توحي بأنها تمثل المصلحة العامة، بينما هي تكمل مسيرة التضليل الجاري على قدم وساق. وآخر ما حرَّرته الحملة كان استطلاع «هاريس» و«واشنطن بوست إي بي سي» الذي يشير إلى انخفاض كبير في نسبة الناس المصدقين بأن هناك تغيراً في المناخ!
وبشكل عام، يعود سبب تدني الحوار حول التغير المناخي إلى عيوب وسائل الإعلام السائدة ونواقصها، سواء من جهة إهمالها، أو ضعف كوادرها، أو من جهة قصدها التضليل المتعمد. وإلى تخلي معظم مراسلي وسائل الإعلام السائدة عن إجراء التحقيقات الصحفية الجدية، لأجل إعداد تقارير مختزلة «محايدة ومتزنة»، بينما هي فعلياً لا تمت بصلة للاتزان والتوازن والحياد إلا من ناحية تشويهه.
لقد كان متاحاً أمام المراسلين إظهار دجالي «الخبراء» العلميين بوصفهم «مشككين بالتغير المناخي» يجنون الأموال من خلال جولات إلقاء المحاضرات والاشتراك بالبرامج الحوارية التلفزيونية. بدلاً من تلطّيهم (أي المراسلين) خلف «حياد» زائف مترافق مع تسعير المنافسة بين رأيين متعارضين، متجاهلين خلوّ أحد الرأيين من الحقائق! مثلاً: نعتبر بديهياً أن نظرية الأرض المسطحة (لأنها باطلة) لا تستحق أن تحتل، في الإعلام، زمناً مساوياً للزمن الذي تستحقه نظرية كروية الأرض. متى سيعتمد الصحفيون هذا الالتزام بالحقيقة- الواقع في إعداد تقارير التغير المناخي؟
يفضح جايمس هوغان وريتشارد ليتلمور خطل هذا الموقف اللاعلمي في كتابهما الصادر حديثاً «التعمية المناخية: الحملة العنيفة لإنكار تغير المناخ»، المتضمن شرحاً دقيقاً لأضاليل قطاع صناعات النفط والفحم وجشعها وصراع المصالح؛ والمتمم لما بدأته مؤلفات أخرى مثل مؤلفيّ روس غيلبسبان «الحرارة في ارتفاع»، 1997، و«نقطة الغليان»، 2004.
يذكر الكتاب أن أحد الباحثين في قضايا المناخ، وهو بروفسور في جامعة كاليفورنيا، كان قد أعد وكتب 928 بحثاً ومقالاً صحفياً، نشرها خلال الفترة الممتدة بين عامي 1993 و2003، لا يستبعد أي منها حقيقة الدور البشري في انبعاث غازات الاحتباس الحراري وتسببها بتغير المناخ. وعلى النقيض منه، 53% من الأقاصيص المناخية المنشورة في أربع صحف أمريكية كبرى (نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، لوس أنجلوس تايمز) ما بين عامي 1998-2002، «اقتبست قولاً لعالِم مناخي، ومتحدث يمثل وجهة نظر أخرى»!
هكذا، وعلى الدوام تم إشباع رغبة مراسلي وسائل الإعلام السائد وشغفهم بالحديث عن وجود خلاف علمي- مناخي ظاهري (لايهم إن كان حقيقياً أم لا) بفيض غامر من المواد المفبركة مدفوعة الأجر من قِبل شركات صناعة النفط والفحم. وهو ما تثبته وثائق المجموعات التابعة للقطاع الصناعي، والتي تكشف أن جزءاً من إستراتيجيتها كان مبنياً على إيجاد مجموعات ومنظمات «واجهة»، والعمل من خلالها وخلفها، بدلاً من تشغيل المجموعات المكشوفة الخاصة بقطاع صناعة النفط والفحم، التكتيك الذي سهّل إخفاء مصادر تمويل الحملات الشعبية العامة التي يجريها ناكرو التغير المناخي (وكثير عليهم لباقة مصطلح «المشككون»).
وبدلاً من مواجهة الإجماع العلمي حول تغير المناخ بالحجة والدليل، من خلال مقالات منشورة توضح وجهة نظرهم، بدأ ناكرو التغيّر المناخي نشاطاتهم بحملة «علم- عرائضية» مبكرة تنفي تغير المناخ، تحمل تواقيع خبراء مناخيين مزيفين (بما فيها تواقيع أكاديميين وعلماء يحاولون تصوير أنفسهم كخبراء خارج نطاق اختصاصهم!) أو تواقيع مزورة لخبراء مناخ حقيقيين تم إدراج أسمائهم في العرائض دون علمهم.
ويورد الكتاب المذكور آنفاً روايات عن كيفية نجاح الخبراء المزيفين و«العلماء الخردة» بمساعدة: 1- حقيقة أن «الحوار العلمي» عن تغير المناخ امتد خارج أسوار المؤسسات العلمية المختصة. 2- «غرف الصدى» أي الشبكات الببغائية، والمدونات، وغيرها من أدوات عمل الموالين إيديولوجياً لوسائل الإعلام السائد التي تقوم بتوزيع ونشر وتدوير المعلومات المضللة. 3- خبرات ومهارات القائمين على العلاقات العامة، وتوظيفها في تنظيم محاضرات جوالة لناكري التغير المناخي.
إنما رغم كل حملات التضليل، يميل معظم الباحثين الجديين اليوم إلى اعتبار التستر على التغيرات المناخية جريمة عابرة للأجيال. إذ بلغ سوء آثار التغير المناخي حداً تجاوز ما توقعه العالم قبل سنوات قليلة. فطبقات الجليد الآخذة بالذوبان تطلق غاز الميثان الحابس للحرارة، والأكثر تأثيراً من ثاني أوكسيد الكربون بنسبة تتراوح بين 20 و60 ضعفاً. أما المحيطات التي عملت كماصّات كربون ضخمة، فقد بلغت حد الإشباع، وربما فقدت قدرتها على تشرّب الغازات الحابسة للحرارة. كما أصبح واضحاً أن الكمية الكبيرة التي امتصتها المحيطات من الكربون قد أضرت بالمرجان وبكثير من الأحياء البحرية الأخرى، مما سيعمق الأزمة الغذائية العالمية.
من الذي يتحمل مسؤولية الوقوف في وجه حملة التضليل التي تشنها صناعة النفط والفحم، والتي كثفت جهودها منذ كانون الثاني 2009 (استباقاً لمؤتمر كوبنهاغن)، وتضاعف عدد تقاريرها المنشورة عبر الانترنت عما كان عليه في العام الأسبق! وما هو المُخبأ لمستقبلنا وأطفالنا وأحلامنا، إذا لم نعِ ما يجري حولنا بشكل صحيح؟! مستقبلك، أطفالك، خيارك!