إبراهيم البدراوي - القاهرة إبراهيم البدراوي - القاهرة

قبل أن يقع المحظور..

زحمة شديدة بالنسبة لأحداث خطيرة تجري في مصر تتصف بأنها «كيفية»، وتتسم بالتنوع والتزامن والترابط. كما أن سلطة مبارك وطبقته هى الطرف الآخر فيها.

سأركز على أحداث خطيرة متزامنة تقريباً وتحمل دلالات هامة مرتبطة بالشأن الداخلي المصري الذي لا ينفصل بطبيعة الحال عن الأوضاع والعلاقات المصرية– العربية والإقليمية. إذ ندرك أن أي عامل أو فلاح أو كادح في أقصى صعيد مصر يرتبط مصيره ومستقبله بأشقائه المحاصرين في غزة، وبالصامدين في خندق المقاومة في وطننا العربي وتخومه الإسلامية، بل وفي العالم أجمع. ومن هنا تكتسب الأحداث الداخلية المصرية أهميتها.

الواقعة الأولى:

بدأت الشرطة في استخدام العنف الى حد القتل في الشارع وعلى رؤوس الأشهاد. وتجاوزت مرحلة الاعتداء الوحشي على بعض الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية التي عادت إليها بهمة مفرطة. إذ قامت باستخدام العنف الشديد في فض اعتصام سلمي لعمال إحدى الشركات أمام مجلس الشورى، ثم اعتدت مؤخراً وبوحشية على وقفة احتجاجية لمئات من الشباب أمام وزارة الداخلية بسبب قيام الشرطة بقتل شاب بمدينة الاسكندرية علناً وفي الشارع، وتم اعتقال قرابة مائة شاب وحوصر الباقون، ولم يتم الافراج عن المعتقلين سوى تحت ضغط اعتصامنا أمام دار القضاء العالي بوسط القاهرة إلى ما بعد منتصف الليل.

تعودت الشرطة في السنوات الأخيرة على القتل تحت التعذيب داخل الأقسام. نحن وبشكل مطلق ضد التعذيب وقتل أي مواطن مهما كانت تهمته. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته قضائياً. لكنهم قتلوا هذا الشاب في الشارع، وتردد أنه كان يحوز أدلة تدين البعض في جهاز الشرطة، وحتى لو كان ذلك غير صحيح، فإن الواقعة تحمل رسالة ترويع للمواطنين. إنها جريمة قتل مع سبق الاصرار والترصد.

الواقعة الثانية:

كان موقفنا، وقوى وطنية من خارج الأحزاب الحكومية، أن تتم مقاطعة انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى، وطالبنا الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين بالمقاطعة لأسباب عدة، منها أن المشاركة تعني اضفاء شرعية على سلطة فاقدة للشرعية، كما أن الجماهير سوف تقاطعها تلقائياً نتيجة لتجربتها الذاتية بعدم جدواها. وأيضاً لأنها تجري بعيد مد العمل بقانون الطوارئ دون أي موجب. وفي ظل التعديلات الدستورية التي أزاحت الرقابة القضائية عليها. لكن الجميع بمن فيهم الأخوان المسلمون شاركوا. 

كانت الانتخابات مهزلة بكل المعايير، إذ تم تزويرها من ألفها ليائها. وكانت المفاجأة (المسخرة) أن عدد الأصوات التي أعلن عنها بالنسبة لكل مرشح قد تجاوزت (ألف ضعف) من انتخبوه، بما في ذلك أربعة مرشحين لأحزاب أربعة من المعارضة المزعومة  في اطار صفقات هزلية مع السلطة.

كان قد سبق ذلك بأسابيع، تحريض علني من تحت قبة مجلس الشعب لاطلاق الرصاص على المظاهرات. وهى واقعة من انتاج مناخ موجود داخل مجلس الشعب!!

الواقعة الثالثة:

هي الوضع المتفجر بين السلطة القضائية ونقابة المحامين التي تضم 450 ألف محام.

لم يأت هذا الوضع المتفجر من فراغ، بصرف النظر عن وقائع الصدام الذي جرى في مكتب رئيس النيابة بمدينة طنطا. لكن الأخطر هو أنه قد جرت أسرع محاكمة في التاريخ لاثنين من المحامين. إذ تم التحقيق بمعرفة النيابة، وصدر قرار الاحالة للمحكمة، وتمت المحاكمة، وصدر الحكم بحبسهما 5 سنوات لكل منهما، وكل ذلك في غضون 24 ساعة فقط. وانفجرت حالة من الغضب العارم من المحامين. واستحكمت أزمة، مصحوبة بعجز عن الحل، وربما رغبة في استمرارها وتسعيرها. فذلك يلهي الطرفين اللذين أجهدا وأتعبا السلطة لسنوات طويلة.

القضاء المصري معروف تاريخياً بنزاهة ورصانة لا مثيل لها. مشهود له عالمياً بالمقارنة مع القضاء في كثير من البلدان المتطورة التى يطلقون عليها البلدان الديمقراطية. له ولا يزال مواقف وأحكام دخلت التاريخ. كنا ولا نزال منحازين لاستقلاله، مدافعين عن هيبته، متضامنين مع كل تحركاته ومطالبه العادلة. فما الذي أخرجه عن تقاليده المعهودة؟ وما الذي أخرج المحامين عن مرونتهم المشهورة؟ إنه مناخ أنتجته سلطة الطبقة الحاكمة استهدفت حصار الطرفين للعمل على تطويعهما واحتوائهما.

عملت السلطة على مصادرة استقلالية النقابات المهنية لافقادها أية فاعلية في المجتمع، خصوصاً بالنسبة لنقابة المحامين صاحبة المواقف المشهودة في التاريخ الوطني. كما سلكت السلطة مسلكاً خطيراً بالنسبة للقضاء للحط من هيبته بعدم تنفيذ الكثير من أحكامه التاريخية التي لا تروق لها  أو تتعارض مع مصالحها. وعدم الاستجابة لمطالبه المشروعة وكسر القواعد المستقرة للتعيين من خريجي كليات الحقوق المتفوقين...الخ. وبالتالي فقد أنتجت سياسات السلطة مناخاً أوصل لهذه الأزمة الخطيرة كامتداد للأزمة الشاملة في البلاد.

دلالات هذه الوقائع:

تكمن خطورة هذه الوقائع المتزامنة في أنها مرتبطة بالسلطات الثلاث في مصر، أي التنفيذية والتشريعية والقضائية. وما جرى لهذه السلطات يؤشر بوضوح شديد إلى أن الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية فقدت ركائزها ومبرر وجودها، وأن أزمتها قد استحكمت وتمددت في كل اتجاه. وبالتالي استحالة اصلاحها بأي سبيل، وفساد «روشتة» الإصلاح الليبرالي التي يتبناها إصلاحيو ومنظرو الفئات الوسطى من مختلف المنابع الطبقية والفكرية الذين يكيلون الاتهامات الفارغة بالتطرف والتشدد للكتلة المناضلة من أجل التغيير الجذري الشامل. ويتناسى هؤلاء الذين يفاخرون باعتدالهم أنهم يدفعون باتجاه الانهاء الكامل للتطور السلمي لمصر، بتهافتهم على وصفات «الغرب المقدس» الرامية إلى الحفاظ على الطبيعة الطبقية لهذه السلطة وإن بتغيير الوجوه وشخوص الرموز أو بعضهم، أو بتحسين شروط التكيف مع الهيمنة الصهيو– امبريالية، أو بقضمة ولو صغيرة من كعكة الوطن. فكل ذلك يفضي الى نتيجة واحدة، هي دمار الوطن وهلاك الشعب.

وحيث أن الأمر جد خطير، فإن الخيار الوحيد هو إلقاء هذه الطبقة وسلطتها السياسية في مزبلة التاريخ، قبل أن يقع المحظور.