موفق إسماعيل موفق إسماعيل

تشيلي: إشراقة الثائر المغدور

حينما ضرب الزلزال المدمر هايتي، لم يكن غريباً أن تتفادى وسائل الإعلام السائدة ذكر ما نهبته دول الليبرالية تاريخياً من ثروات الجزيرة المنكوبة وشعبها، وأن يلعب الإعلام الناطق باسم الشركات العملاقة، من محطة «سي إن إن» الأمريكية إلى «إم بي سي» السعودية، دور التغطية على عملية تجديد احتلال هايتي، بأخبار عن أعمال سلب المتاجر، وتمويه الغزو بإغراق السكان بالكثير من مشاعر الشفقة.

وبينما كان شعب هايتي يطلب من شعوب العالم تضامناً حقيقياً، ما تلقى سوى شح الإحسان الذي يستهجنه مؤرخ أمريكا اللاتينية «إدواردو غاليانو» بوصفه أداة تكريس فوقية المانح، ودونية الممنوح، بعكس التضامن الذي يمتد أفقياً، معبراً عن التساوي بين أبناء الإنسانية.

أما ما أثار استغراب الكاتبة الكندية ناؤمي كلاين، في آخر مقال لها، نشرته في مدونتها الالكترونية، استغلال إعلام «وول ستريت» الزلزال التالي الذي أصاب تشيلي هذه المرة، وإعادة أسباب أضراره الأخف نسبياً وبالتالي قلة عدد ضحاياه، وعزوها إلى نجاح السياسات الليبرالية، محاولة تسجيل انتصار ما باسمها، ولو مسروقاً، وسط ركام إخفاقاتها المتتابعة وتداعي جدران سوقها الحرة.

فبعد يومين من تعرض تشيلي لزلزال مدمر، يخبر الصحافي «بريت ستيفنز» قراء «وول ستريت جورنال»: «لا بد أن روح ميلتون فريدمان تحوم فوق تشيلي.... إذ بفضله، تجاوزت تشيلي حادثاً مأساوياً، كان يمكن أن يتحول إلى كارثة كبرى لو وقع في بلد آخر.. وليس مصادفة أن التشيليين كانوا يعيشون في بيوت من الطوب، عندما أتاهم المدمّر وهددهم بالدمار، بينما كان الهايتيون يعيشون في بيوت من التبن»!

الأمر الذي تعلق عليه ناؤمي كلاين بالقول: إنه منذ بدء الانهيار الاقتصادي في أيلول 2008، ارتد الجميع إلى النظرية الكينزية، ولم يعد ممكناً الافتتان بلاحقه، الاقتصادي ميلتون فريدمان، بعد أن تشوهت سمعة العلامة التجارية المسجلة باسم أصولية سوقه الحر، وأخذ أتباعه يجهدون بحثاً عن وميض نصر إيديولوجي يستحضرونه من أي مكان، مهما يكن بعيداً.

وإذا اعتمدنا رواية الصحافي ستيفنز، فإن سياسات السوق الحر ة الصارمة، التي قدم وصفتها ميلتون فريدمان وفريق رعاة شيكاغو «Chicago Boys» سيئ الصيت، لديكتاتور تشيلي أوغوستو بينوشيه، هي التي جعلت تشيلي دولة ناجحة في تبنيها «أكثر مبادئ البناء صلابة»، مما أنقذها بالتالي من كارثة كان يمكن أن تتحول إلى مأساة رهيبة!

إنما، حسب اعتراض ناؤمي كلاين المحق، تنفتح ثغرة فاضحة في هذه الفرضية، إذ تم إقرار قانون نظام البناء التشيلي الحديث المقاوم للزلازل، في عام 1972. أي قبل عام من استيلاء بينوشيه على السلطة بانقلاب عسكري دعمته الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو معروف. فإذا كان هناك من شخص يستحق الشكر على سن القانون، فلا هو فريدمان، ولا بينوشيه، بل سلفادور أليندي، رئيس تشيلي الاشتراكي المنتخب ديمقراطياً. (وفي الحقيقة، يستحق الكثير من التشيليين الشكر، لأن القوانين كانت تُسَنّ تباعاً، نظراً إلى تكرار وقوع الزلازل، وأولها أقر في الثلاثينات).

وما يرفع من أهمية إصدار هذا القانون في تلك الفترة، أنه قد تم تبنيه في عزّ الحصار الاقتصادي على تشيلي (ومن ينسى نداء ريتشارد نيكسون الشهير «لنجبر الاقتصاد على الصراخ»، عشية يوم فوز أليندي بانتخابات عام 1970). ولم يجرِ تحديث القانون إلا في التسعينات، بعد خلع بينوشيه، ورحيل فريق رعاة شيكاغو، واستعادة الديمقراطية. وللمفارقة: يذكر بول كروغمان في صحيفة نيويورك تايمز (3/3/2010) أن فريدمان كان يشكك بمبادئ البناء المقاوم للزلازل، معتبراً أنها تشكل انتهاكاً لحرية رأس المال والرأسمالية!

وتضيف الكاتبة: يبدو أن ستيفنز لا يفقه شيئاً عن تشيلي ما قبل الانقلاب، طالما أنه يؤمن بأن سياسات فريدمان هي سبب عيش التشيليين في بيوت من طوب بدلاً من بيوت التبن. إذ كانت تشيلي الستينات تتمتع بأفضل أنظمة التعليم والرعاية الصحية في القارة الأمريكية، إلى جانب قطاع صناعي نشط وطبقة متوسطة واسعة ومزدهرة. وكان التشيليون مؤمنين   ببلدهم، ولذلك انتخبوا سلفادور أليندي كي يطور لهم مشروع بنائها ويمضي به قدماً.

وبعد قيام الانقلاب ومقتل سلفادور أليندي، بذل بينوشيه وفريق رعاة شيكاغو أقصى ما بوسعهم لتفكيك القطاع العام التشيلي، وبيع منشآته بالمزادات العلنية، ونسف القوانين المالية والتجارية. وتحققت لبينوشيه في تلك الفترة ثروة طائلة، لكن بتكلفة باهظة جداً: ففي أوائل الثمانينات، أدت سياسات بينوشيه، المتّبع لوصفة فريدمان، إلى تجريد سريع لتشيلي من صناعاتها، وارتفاع البطالة إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، وانتشار مدن الصفيح بشكل غير مسبوق. علاوة على انتشار الفساد، وتراكم الديون، إلى درجة أجبرت بينوشيه ذاته على طرد مستشاريه من فريق رعاة شيكاغو الذين كان يعتمد عليهم، وإعادة تأميم العديد من المؤسسات المالية الكبرى (ألا يبدو هذا مألوفاً؟).

وبعد سردها لعدد من المؤسسات والمنشآت التي بقيت ملكيتها بيد الدولة، اختتمت ناؤمي كلاين مقالها بالقول: «لحسن الحظ، لم يتمكن فريق رعاة شيكاغو من تفكيك وتدمير كل ما أنجزه سلفادور أليندي. وبقي في يد الدولة ما كفى لمنع فريق رعاة شيكاغو من امتطاء ظهر الاقتصاد التشيلي وترويضه كلياً. ومنعه حتى من الاقتراب من أنظمة بناء أليندي الصلبة، الإشراقة الإيديولوجية التي نحمل لها اليوم كل الامتنان».