الفوضى المنظمة في آسيا الوسطى
بعد الفشل الذريع الذي منيت به نظرية «الفوضى المنظمة» في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، يتضح أكثر فأكثر أن الأمريكيين انتقلوا إلى تجريبها في بلدان آسيا الوسطى، انطلاقاً من قرغيزيا هذه المرة.
لمن تفتح القواعد!
يقول ألكسندر شوستوف، الخبير في شؤون آسيا الوسطى، إن الولايات المتحدة كانت تستعد قبل مجزرة «أوش» الأخيرة، لإنشاء مركز تدريب عسكري في منطقة «باتكن» القرغيزية، إضافة إلى قاعدتها العسكرية في «ماناس» القريبة من المطار الدولي في بيشكيك. وهو ما أكدته المجلة الصادرة عن مؤسسة «جيمس تاون» (التي يتصدر زبيغنيو بريجنسكي مجلس مستشاريها)، في مقال نشرته في الحادي عشر من آذار الماضي بعنوان «الولايات المتحدة تساعد قرغيزيا في إنشاء مركز مكافحة الإرهاب في باتكن»، الذي نستنتج منه أن القاعدة العسكرية الأمريكية موجودة في قلب آسيا للاستخدام في حال نشوب نزاع مسلح بين قرغيزيا وأوزبكستان، وليس من أجل إمدادات الحملة على أفغانستان.
يورد المقال المذكور تصريح الرئيس القرغيزي الأسبق باكييف أثناء لقائه بالجنرال الأمريكي بترايوس، حول أن التهديد الأكبر الذي تواجهه بيشكيك لا يأتي من أفغانستان، بل إن الخطر الحقيقي، الذي يجعل قرغيزيا تقبل الوجود العسكري الأمريكي على أراضيها، مصدره أوزبكستان المجاورة، فيما لو حاولت الأخيرة حماية سكان الأقلية الأوزبكية في أوش وباتكن، والسيطرة على موارد المياه القرغيزية! كما ينقل المقال تصريحاً منسوباً إلى مسؤول مغفل الاسم في وزارة الدفاع القرغيزية حول أنه في حالة نشوب الصراعات المحلية الإقليمية المألوف وقوعها في هذه المنطقة، ستستعين بيشكيك بالقوات الأمريكية التي ستتمركز في المركز العسكري الجديد المزمع إنشاؤه. وأخبر المسؤول الصحفيين أن قرغيزيا تخطط لتجهيز «مجموعة خاصة» من الجنود المدربين على يد الأمريكيين لإسناد القدرات الدفاعية للبلد وتدعيمها.
وبهذا، يفتح المركز الجديد أمام قرغيزيا والولايات المتحدة آفاقاً جديدة واسعة لم يسبق أن أتيحت لأي من دول آسيا الوسطى. علاوة على أنهما تشتركان على إدارة قاعدة عسكرية أخرى في «توكموك». مع العلم أن المفاوضات الدائرة حول إنشاء القاعدة العسكرية الجديدة لم تتأثر سابقاً بتذبذب الرئيس باكييف وتردده الظاهري (عندما طلب مغادرة القوات الأمريكية قاعدة ماناس، وتراجع عن الطلب لاحقاً). فمن المعروف للجميع أنها كانت مجرد مناورة لابتزاز القروض من روسيا، ونجحت.
حرب الغد
من جهة أخرى، توترت في الأشهر الأخيرة علاقات أوزبكستان مع كل من قرغيزيا وطاجكستان، بسبب ضغوط طشقند على جارتيها لإيقاف بناء محطات الطاقة في كامباراتينسك وروغون، مستخدمة وسائل مختلفة، كقطع إمدادات الغاز الطبيعي أو زيادة التعرفة الجمركية وتعقيد عمليات عبور المناطق الحدودية. وهو أمر لا تستطيع الدولتان تحمله نظراً لتضاريس المنطقة، ومرور كل البضائع والنقليات عبر أوزبكستان.
ففي الأول من آذار الماضي، أغلقت أوزبكستان معبر كارا- سوو على الحدود القرغيزية أمام كافة أنواع المركبات بحجة إجراء بعض الترميمات، وتبين أنه لا وجود لأي نوع من أنواع الإصلاحات، اللهم إلا زيادة التوتر على جانبي الحدود، واصطناع أزمة تضرر منها السكان القرغيز المعتادون على شراء البضائع الصينية قرب المنطقة الحدودية. ووفقاً للسيناريو الذي يرسمه مركز جيمس تاون إياه، من المتوقع تصاعد التوتر في الفترة المقبلة، بعد تكرار حالات العبور غير الشرعي للحدود، وتحميل كل من طشقند وبيشكك مسؤولية الخروقات للطرف الآخر.
في عام 2008، تم تسجيل 21 حالة اشتباك بين الطرفين. وفي الشهر الأول من هذا العام، جرح أحد حرس الحدود القرغيز في اشتباك وقع في قرية تتوزع أراضيها بين البلدين نتيجة عدم إتمام ترسيم الحدود بينهما، وعولج واحتجز الجندي المصاب في أوزبكستان. فقام حرس الحدود القرغيز، في الأول من آذار، باحتجاز أربعة رعاة أوزبكيين في منطقة جلال آباد بتهمة العبور غير الشرعي للحدود. وفي الرابع من الشهر ذاته قتل الحرس مواطناً أوزبكياً وجرحوا آخر.
في الوقت الحالي، لم يتم الاتفاق على ترسيم 300 كيلو متر من أصل 1375 كيلومتر حدودي. ورغم أن منطقة وادي فيرغانا منطقة مستقلة من وجهة نظر اقتصادية (وفي الحقبة السوفييتية كانت موحدة)، إلا أن الصراع عليها الآن يبدو أمراً حتمياً، وهذا الصراع يمكن أن يتطور إلى صدام إقليمي شديد وواسع النطاق.
أخيراً، من خلال متابعته للتطورات، يرى ألكسندر شوستوف أن وقوف واشنطن موقف المتفرج بين القرغيز والأوزبك يأتي منسجماً مع المفهوم الأمريكي في تحقيق التفوق الاستراتيجي عبر إحلالها «الفوضى المنظمة» (مع أنه لا يمكن واقعياً التحكم بالفوضى). وفي حال نجاحها، تكون الولايات المتحدة قد رسخت مواقعها في جمهوريات آسيا الوسطى، السوفييتية سابقاً، سواء نفذت أو لم تنفذ واشنطن عملية سحب قواتها من أفغانستان في عام 2011.