إعلان النصر الأمريكي على الشاشات!
كل عناصر التشويق توفرت في الخبر، فانسكب حبر المقالات الصحفية والأعمدة، وانشغلت نشرات الأخبار والبرامج التحليلية في نقاش ضحل عن «حزم» أوباما في معالجة «عصيان» ستانلي ماك-كريستال. ولأكثر من أسبوع، واظب إعلام الشركات الكبرى، عاشق سِير الجنرالات، على تلميع صورة «الجنرال الكبير الذي طار»، متجاهلاً الجزءَ الأهم من تقرير «مات هاستينغز» لمجلة «رولينغ ستونز»، الذي يقدم وصفاً للجيش كمؤسسة قاصرة تراوح في مكانها، عاجزة عن الانسحاب من أفغانستان، كونه يمثل اعترافاً بالهزيمة، وعاجزة في الوقت ذاته عن تحقيق «النجاح» المستحيل المكلفة بإحرازه.
إضافة إلى أن التقرير ذاته يطعن بإمكانية نجاح الحملة العسكرية في تحقيق أي هدف من أهدافها، ويصف فريق عمل ماك-كريستال بأنه «مجموعة منتقاة تضم قتلة وجواسيس ونوابغ ووطنيين متعصبين ودهاة سياسة ومهووسين، يلقبون أنفسهم بفريق أمريكا Team America».
في عزّ المعمعة، حرِص أوباما على إظهار ثقته بماك-كريستال، رغم أن الأخير مع فريقه، كممثلين للمجمع الصناعي العسكري، كانوا قد أظهروا ازدراءهم الشديد للرئيس ولمستشاريه الذين لا يعرفون شيئاً عن «المهمة».
فما هي المهمة في أفغانستان وباكستان؟
يقول بيبيه إسكوبار، المحلل في «أخبار آسيا» إن فريق أوباما يستخدم أفغانستان تكتيكياً كبيدق في فسحة الصراع الدائر مع إيران، للإيقاع بين شيعة إيران ووهابيي المملكة السعودية، ودفعهما نحو الاصطدام. أما المجمع الصناعي العسكري فيتطلع إلى ما هو أبعد، إلى رقعة اللعبة الكبرى الجديدة في أوراسيا، انطلاقاً من إيمان البنتاغون بـ «مبدأ السيطرة الشاملة» التي تستلزم تجهيز القواعد العسكرية الاستراتيجية في أفغانستان للسيطرة على المنافسين الاستراتيجيين روسيا والصين، ومراقبتهما عن قرب. ولذلك، مثلاً، تتكرر الحكاية القديمة ذاتها، عن ضرورة تحطيم حركة طالبان أو عزلها أو رشوتها، بحيث يتحقق حلم مدّ خطوط أنابيب النفط العابرة لأفغانستان ناقلة غاز تركمانستان إلى أسواق الغرب، ويتوقف العمل بخط أنابيب إيران-باكستان المنافس.
أما الجزء الثاني الذي تجاهلته كافة وسائل إعلام الشركات الكبرى، فيكمن في أن كل التصريحات التي أدلى بها ماك-كريستال وفريقه لم تقترب من انتقاد المؤسسة العسكرية وخططها في أفغانستان وباكستان، إنما تجرأ أصحابها على إعلان نية العسكر عدم الانسحاب من أفغانستان، وهو ما لا يريد البنتاغون إعلانه.
فكل الجهد الإعلامي الدائر حول لبّ القضية في مقولة أوباما «لا تغيير في الاستراتيجية»، لا يعني أن الحرب مستمرة وحسب، إنما في حين تجهل واشنطن من هو «العدو» في أفغانستان، يتولى العسكر تحديده، ويضمنون استمرار الحرب إلى ما لا نهاية. وهل يمكن أن ننسى في هذا السياق، مثلما ينسى الإعلام الغربي، أن الذي «هندس» العدو لماك-كريستال، ورسم له المخطط العام، هو معلمه الجنرال المفروز إلى باكستان وأفغانستان دايفيد بترايوس؟!
قبل أقل من سنة انحنى بترايوس لرغبة أوباما ببدء سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول تموز، عام 2011. وعندما أقر الرئيس الأمريكي إرسال التعزيزات العسكرية في أواخر عام 2009، كان بترايوس قد أكد له أن الجيش الأمريكي قادر على قلب أمور الجبهة في مدة أقصاها ثمانية عشر شهراً، وتسليم الجيش الأفغاني مهام الأمن في البلاد.
حينها، حسبما يذكره جوناثان أولتر في كتابه «الوعد: الرئيس أوباما، العام الأول»، دار الحوار التالي بين أوباما وبترايوس والأدميرال مايك مولن:
أوباما: أريدك أن تكون صادقاً معي. هل تستطيع إنجاز هذا خلال ثمانية عشر شهراً؟
بترايوس: سيدي، أنا واثق من قدرتنا على تدريب الجيش الوطني الأفغاني وتسليمه الأمور خلال هذه الفترة الزمنية.
أوباما: وطالما أنك قادر على إنجاز ما تطرحه لنا، خلال ثمانية عشر شهراً، فلن يتقدم إلينا أحد باقتراح البقاء هناك مستقبلاً، أليس كذلك؟
بترايوس: نعم سيدي، أتفق معك.
مولن: نعم سيدي.
لكن لدى جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، والمُعِين الأول لماك-كريستال في محنته، رأي آخر، عبر عنه بالقول تعليقاً على الحوار: «أراهن على أنك بحلول تموز 2011 ستشهد إزاحة الكثير من الشخصيات»، حسب جوناثان أولتر أيضاً.
خسرت الولايات المتحدة حربها في فييتنام، إنما كسبتها في هوليوود. والحرب التي خسرتها في العراق ربحتها في التلفزيونات. والآن، تحاول الإمبراطورية، بأقصى طاقتها، أن تطيل إلى ما لا نهاية أمد النقاش حول إمكانية تحقيق «نجاحٍ» مبهم في حرب خسرتها منذ سبعة أعوام، علها تتمكن من إعلان النصر على الشاشات.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.