في ظلال فيزوف
تحاول الصين التعرف على مستقبلها من خلال الوقوف على أطلال «بومبي Pompeii». فطيلة الأعوام الستة الأخيرة، وعلى دفعاتٍ تضم كل واحدة منها عشرين نفراً، خمس مرات في السنة، قامت وفود من مدرسة الحزب المركزية بزيارات، أشبه بالحج، إلى أنقاض المدينة الرومانية العتيقة التي دُفنت عام 79 ق.م تحت حمم بركان فيزوف.
إذ يعتقد أهل الصين، بدون آلهة وبقليل من الإيمان، أنهم، كي يستشِفوا قدَرهم، ويستوعبوا تركيب الحمض النووي للولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى الأحادية، ويفهموا طبيعة منارات الصين السياسية والثقافية، عليهم فهم التاريخ القديم أيضاً، حينما كانت إيطاليا أضعف الدول الأربع الأقوى في أوروبا، خلال 90% تقريباً من أمد ثلاثة آلاف عام من التاريخ الغربي، بين إغريق فيثاغورث وتنوير بيكاريا.
بومباي، الماضي المنبعث مجدداً من جوف الأرض ليشهد، لا على الحاضر وحسب، بل على المستقبل أيضاً، لأن الآثار المسحوبة من بين طيات تراب الأرض ستدوم لأجيال تالية، شهادة لا تقتصر على إيطاليا وحدها، إنما تنسحب على العالم المطارد لسراب سرعةٍ، وتغييرٍ تقوده أمريكا، البلد الذي تأسس على اللغة الإنكليزية لكن وفق الشعار اللاتيني «الخارج من الكثرة، واحد» (e pluribus unum)، ونسر الإمبراطورية الرومانية دليله.
منه وإليه، التراب إلى تراب يؤول. من جديد، بدأت آثار بومبي تغور في الأرض بعدما شقت درب بروزها للحياة رويداً رويداً منذ القرن الثامن عشر، بالتقمص الفيثاغورثي، على الأغلب، وبفضل تنقيبات عالم الآثار الألماني يوهان فينكلمان.
ففي الأسبوع الماضي، بسبب الإهمال ربما، أو البلاهة أو لسبب آخر، تفتت ثالث بيت من آثار بومبي، وهوى عائداً إلى أرضٍ حجبته حتى ما قبل ثلاثة قرون. وهذا الحدث ليس مجرد فضيحة وطنية، كبيرة كانت أم صغيرة؛ إنما إشارة. علامة شوهدت من الخارج، من مسافة بعيدة بُعد الصين، كرمز لانهيار إيطاليا وتهاوي وحدة أوروبا، دون صدوع ظاهرة أو خطيرة.
لم ينوِ أحد تدمير آثار بومباي، سحقها بجرافة، أو تفجيرها بالديناميت، أو انتزاع حجارتها بوتد، واحداً إثر آخر. لا أحد يضمر كل هذا الشر! إنما ببساطة لم يكن لدى أحد خطة. انهار بناء بومبي، بالتحديد، لانعدام التخطيط وبُعد النظر. ولأن الاستراتيجية انمحت، في الحرب المؤبدة بآلاف التكتيكات الجزئية.
ما الذي تعنيه بومبي للعالم، ولإيطاليا، ولأوروبا قبل الجميع؟ ومن أين لإيطاليا الحق بملكية صرح يلفت إليها الأنظار، ويغمرها بالإعجاب، ويدر عليها السيولة النقدية، عبر السياحة وبذخ الإنفاق، إذا كانت تسلمه للانهيار؟!
إذا سقطت بومبي، يسقط معها تاريخ هوية إيطالية وأوروبية كان أعيد تشكيلها أواخر القرن الثامن عشر، بفضل التنوير وإلهامات لـُقى حضارة رومان ما قبل المسيح الساطعة في بومبي. الهوية التي غرست جذورها في إيطاليا بينما رأسها كان، كما الآن، في ألمانيا. قبل ثلاثة قرون تولاها فينكلمان. أما اليوم فالمهمة ملقاة على رأس الاقتصاد الأقوى في القارة، أنغيلا ميركل.
ليس مصادفة أن ينهار بيت بومبي إبان تزعزع مكانة اليورو نتيجة غارات مضاربي العملات الذين سنحت لهم الفرصة، نظراً للتفاوت المتزايد في عائدات السندات بين مختلف دول منطقة اليورو.
مرت الأسواق المؤمِنة بـ«دولة واحدة، ونظامين» بفترة عصيبة من ناحية الثقة بالعلاقة الجديدة بين بكين وهونغ كونغ في عام 1997، في خضم أزمة مالية. وبشكل مشابه، ترتاب أسواق هذه الأيام من صيغة «عملة واحدة، وعائدات متباينة» بينما تشهد تكريس التفاوت تحت عباءة شعار «يورو موحد، يربح الجميع»! ومن السهل على مراقبي حركة السوق المراهنة على أن عوائد سندات الاقتصادات الأضعف سوف تتحرك صعوداً، مستفزة اقتصادات أقوى، مثل ألمانيا الضجرة من اضطرارها التعويض عن تبذير جيرانها.
قد يكون صحيحاً زعمُ رومانو برودي، الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي ومستشاره العتيد، بأن حال الصناعة الألمانية ستتردى في حال خروج إسبانيا وإيطاليا من إقليم اليورو، لأنهما ستقومان بخفض قيمة عملتيهما بحرية، لتحسين وضع بضائعهما التنافسي مقابل البضائع الألمانية. مما قد يجبر ألمانيا، متزايدة التفرّد، المصدّر الأكبر، ويدفعها إلى إعادة تقييم قاسية لعلاقة مارك- يورو، بدون الثقل الموازن الذي يشكله الزملاء الأوروبيون الأضعف.
ولكن يمكن أن تصبح الحسابات أعقد إذا ما قورن أثر فقدان قدرة ألمانيا التنافسية باحتمال خسارتها أموال دافعي الضرائب والموارد المالية من مديونية جيرانها. ومن حيث الجوهر، بات اليورو قضية سياسية إستراتيجية لا تتعلق بمجرد حسابات تفاضل أو تكامل اقتصادي. فهل يستحق أن تنتشل الدولُ الأقوى اقتصادياً في منطقة اليورو، كألمانيا، الدولَ الأضعف؟
استند الاتفاق السابق على خوف ألمانيا من ذاتها، ومن طموحاتها (التي أشعلت حربين عالميتين)، وعلى رغبتها بأن تقيدها بلدان أوروبا الأضعف لتقيها من نفسها. لكنها، خارج أطر جمود الوحدة، تشعر أن تلك البلدان لا توفر لها الحماية المطلوبة، وأنها ليست أكثر من ثقل يُبطئ سرعة نموها الاقتصادي.
ولا يعني هذا انهيار اليورو كلياً، الأمر الذي من شأنه إطلاق عملية إنهاء النظام النقدي العالمي، إنما كَسْراً للتوازن الهش لليورو، وإشارة إلى أن الأزمة الحالية يمكن أن تؤدي إلى تراجع نظام اليورو، إذا راوح في مكانه ولم يتمكن من التقدم. وفي هذه الحالة سيضمحل مضمون وجود الاتحاد الأوروبي، ويمكن لانتقال عدوى هذا الاعتلال أن يؤثر على مضامين الوحدة السياسية والثقافية لإيطاليا، التي قد تنقسم قريباً إلى قسمين، كما حدث في غابر الأزمان، قسم محدد بروابط جبال الألب، وآخر مسحوب من قدمه المتوسطية.
لعل هذا ما يحدث فعلياً، بطريقة ما! المسألة تعدت قضية حال اليورو، ووصلت إلى جذور مسألة الثقافة الإيطالية. ولسوف تغدو إيطاليا مجرد تفصيل جغرافي، حسب تعبير «ميترنيخ»، أوائل القرن التاسع عشر، إذا فشلت بحماية آثارها. فهناك من ينوحون على زوال الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، ويوجهون أصابع اللوم نحو الـ«الجنوبيين». وفي هذا يتمثل الارتداد والنكوص، عودة صورة الجنوب الإيطالي الفاسد الـ«دون»، وريث مملكة العرب- البوربون المعادية للشمال المتشبث بوسط أوروبا الجرمانية.
ترتبط هذه المشاعر الانفصالية في إيطاليا الموحدة سياسياً بتعزيز مشاعر الانفصال في مجمل أوروبا، المقسمة إلى عدة دول مستقلة سياسياً. ومع عودة أجزاء من بومبي العتيقة إلى رماد فيزوف البركاني، يتعين على أوروبا أن تثبت لنفسها أنها ليست قائمة على اليورو وحده، بل على أساس سياسي وثقافي أصلب. وهو ما لم يحدث حتى الآن، وما زال مستمراً نمو فوارق عائدات السندات الأوروبية، مترافقاً مع زيادة المضاربات المالية. وفيما يزعم معظم سياسيي أوروبا بأنها مجرد مشاكل اقتصادية، إلا أنها في الواقع مسألة سياسية وثقافية.
وإذا ما أخفقت أوروبا وإيطاليا، بطريقة ما، ستخفق الصين أيضاً وبقية العالم، ويضيع مهد الحداثة مخلفاً الجميع منعزلين ومتخبطين أكثر، وعُرضة، ربما، لارتكاب أفدح الأخطاء.
■ محرر الشؤون الآسيوية في صحيفة
«لا ستامبا» الإيطالية