استحضار الاستثناء الأمريكي
ها هي من جديد، جوقة الراغبين بالترشح للرئاسة تضرب على طبول «استثنائية» الولايات المتحدة الأمريكية، رافعة نبرة التبجح والعصبية القومية. وتزاود، إلى حد الشوفينية، بنداء سوبر وطني لا هدف له سوى ضخ الحياة في أوصال مفهومٍ سبق لجورج بوش أن نبشه من مزبلة التاريخ، لتسويغ تدمير العراق، واستخدمه وسيلة للتفرد، مستخفاً ببقية دول العالم.
ففي عهده هتكت الولايات المتحدة المعاهدات الدولية، وهمشت دور الأمم المتحدة، وحطت من شأن التعاون الدولي، إلا بما يخدم مصالحها، رافضة كل الأفكار المقبولة منطقياً في قضايا العالم كافة. لأن بوش والمهللين له من قادة المحافظين الجدد يزعمون أن لدى الولايات المتحدة قوانين خاصة وأحكاماً وحلولاً لكل القضايا، انطلاقاً من مصلحتها القومية! وها هم بعض سياسيي الحقبة الراهنة يكررون تدوير أسطوانة الحجج البالية ذاتها، بدفع رباعي من قناة «فوكس نيوز».
عموماً، ينسحب مفهوم الاستثنائية الأمريكية على كافة القرارات القومية التاريخية المماثلة لقرار غزو العراق، مثل: إلقاء القنبلة الذرية على اليابان؛ وتصفية سكان البلد الأصليين ليستوطنها البيض؛ واستعباد الأفارقة لتشغيلهم في الزراعة وإنشاء المزارع، الخ... وجميع المؤيدين لارتكاب هذه الأفعال يزعمون أن الرب منح الولايات المتحدة حقاً استثنائياً يخولها أن تقضي وتحكم، بمعزل عن بقية العالم، لأننا شعب استثنائي!
ومن زاوية ما، تستخدم الاستثنائية الأمريكية، آنياً، كسلاح لإضعاف سلطة الرئيس أوباما، تمهيداً لاستعادة الحزب الجمهوري العجوز موقع الرئاسة في عام 2012. علاوة على أن المصطلح يفيد في تبرير سياسات المحافظين مثل تحرير الرأسمالية من عقالها، ومركزة الحكم، وتخفيض الضرائب، وفرض التوجه المسيحي على الشعب.
إحداثيات مغفلة
لندقق قليلاً في هذا المفهوم، بالعودة إلى مؤتمر «معهد بروكينغز»، عام 2008، حول الاستثنائية الأمريكية، الذي رسم الخطوط العريضة لملامح «تميُّز» الأمريكيين عن بقية شعوب العالم، وتوصل إلى أن:
- حوالي 75% من الأمريكيين يفتخرون ببلدهم، مقابل افتخار ثلث الألمان واليابانيين ببلدانهم.
- يرى نصف الأمريكيين أن شبكة الأمان الاجتماعي مهمة، مقابل 75% في أوروبا.
- يعتقد ثلثا الأمريكيين أن النجاح يأتي من خلال الجهد الفردي، بينما نفس النسبة من الأوروبيين تعتقد أن النجاح يأتي نتيجة عوامل متعددة خارجة عن إرادة الفرد.
- وقبل كل شيء، المعتقد الديني متجذر في الولايات المتحدة. فنصف الأمريكيين يعتقدون أن الإيمان بالرب عماد الفضيلة، بينما ثلث الأوروبيين فقط يعتقدون بذلك.
- يرتاد الكنيسة 40% من الأمريكيين لمرة واحدة في الأسبوع، مقابل 10% يرتادونها في أوروبا.
أهذه خصائص تبرر للولايات المتحدة الأمريكية فرض إرادتها على بقية العالم؟!
عنوان العظمة
يتضمن مفهوم الاستثنائية الأمريكية التباهي بأن الولايات المتحدة هي أعظم دولة على وجه الأرض! ولا سبيل، ربما، إلى تصحيح الأمريكيين لادعائهم هذا وتدقيقه، لأن عدداً قليلاً منهم يقرأ الصحف، وعدداً أقل منهم يسافر إلى الخارج.
ولا يزعم الساسة الخاضعون لسيطرة الشركات العملاقة أن الولايات المتحدة تطبق «نظام الرعاية الصحية الأعظم في العالم»! إلا لإظهار جهلهم فقط!! إذ رغم أننا ندفع مبالغ أكبر مقابل الحصول على خدمات صحية أقل، صنفت «منظمة الصحة العالمية» الولايات المتحدة في المرتبة 37، بين دول العالم، من حيث أداء الرعاية الصحية في عام 2000.
كما تكشف دراسات عديدة أن ولاياتنا المتحدة الأمريكية متواضعة من حيث علاج الأمراض، إلى حد الضآلة. فمثلاً، بالمقارنة مع بلدان مجموعة الثمانية، لدينا أعلى معدل وفيات للأطفال الرضع، وأعلى عدد من الأمهات اللواتي يمتن أثناء الولادة، وأعلى معدل وفيات لحالات مَرَضية كان بالإمكان إنقاذ أصحابها، وسِجلّ الولايات المتحدة هو الأسوأ من ناحية علاج مرضى السرطان.
أما الأكثر سوءاً فهو أن الأمم المتحدة حجزت للولايات المتحدة المرتبة 74، من حيث أداء الرعاية الصحية. وفي عام 2009، وضعتها المخابرات المركزية الأمريكية في المرتبة 49، من ناحية متوسط عمر الإنسان، بين دول العالم.
وكذلك، ليست الولايات المتحدة هي «الأعظم» في مجالات كثيرة. فهي الثانية بعد الاتحاد الأوروبي من حيث إجمالي الناتج القومي، وتحتل المرتبة 41 بين 130 دولة، من حيث الدين العام، وحال ميزانها التجاري أسوأ من أي بلد آخر. وترتيبها 32، من حيث أداء طلابها في الرياضيات والعلوم والقراءة.
إنما، والحق يقال، لدينا أعظم تفاوت في توزيع الثروة عالمياً. ففي عام 2007 تحكم أغنى 10% من الأمريكيين بـ72% من الثروة، بينما لم ينل الـ50% من الأمريكيين الأفقر إلا 2.5% منها. وارتفع معدل الفقر من 12% إلى 14% منذ عام 2004، وخلـّف الكساد الحالي أكثر من ربع السكان العاملين بين عاطلٍ وشبه عاطل عن العمل.
ولا يسعنا القول بأن جيش الولايات المتحدة هو الأعلى تكلفة في العالم، لأنها ببساطة تنفق عليه أكثر مما تنفقه بقية دول العالم مجتمعة على جيوشها، مثلما ننفق نحن على نظامنا الطبي (القائم على الربحية) بأعلى من المعدل العالمي بمقدار الضعفين ونصف.
اكتشاف الخرافة
الحديث عن حالة مختلفة من التطور التاريخي أمر وارد، لكنه يختلف كلياً عن تبني «الاستثنائية» الأمريكية في رسم سياسات الحكومة دون النظر في الإخفاقات الكارثية المريعة في العراق وأفغانستان، وانحلال الاقتصاد العالمي تدريجياً، وتضخم العجز في الميزانيات، وبتجاهل بروز إيران والصين على الساحة الدولية.
يستخدم السياسيون الشعاراتيون (من أمثال مايك هوكابي، ميت رومني، ريك سانتوروم، مايك بينس، نيوت غينغريتش) مفهوم «الاستثنائية» لإثبات مدى حبهم لأمريكا! لكن هكذا قومية مفرطة، مجبولة بنزعة إيمان مسيحية غالباً، تنفي اشتراكنا، كبشر، مع بقية شعوب العالم في الإنسانية، وتقوض التعاون الدولي، وتعزز نزعة الغطرسة المتجاهلة للرأي العالمي.
ولا يبقى لنا سوى انتظار أن نشهد رد فعل الأمريكيين عندما يدركون أن طموحهم الإمبريالي بحلول «قرن أمريكي جديد»، حلم المحافظين الجدد بالسيطرة على العالم، ليس إلا خرافة جوفاء.
أخيراً، عاشت الولايات المتحدة لفترة أطول مما تسمح لها مقدراتها بكثير، ويتعين عليها اليوم أن تقنَع بموضعها في العالم الجديد، حيث الصين والاتحاد الأوروبي، وحتى دول أخرى صغيرة، أخذت تتحدى الدور الأمريكي في العالم، بشكل متزايد. فهل ستغدو الولايات المتحدة أكثر ميلاً نحو الانعزالية، وتخوض مغامرات عسكرية جديدة، أم ستنضم إلى بقية دول العالم لتعزيز السلم العالمي؟ سنرى.
■ كاتب أمريكي ساخر في الشأن الثقافي-السياسي