التجسس على مصر، والبيئة الحاضنة..

يصاب الكثيرون بالدهشة من توالي ضبط شبكات تجسس العدو الصهيوني على مصر، رغم الصلح والسلام. بيد أن السلام لم يتم على أرض الواقع، لأنه لا سلام بين القاتل والمقتول، أو السارق والمسروق. وتؤكد استمرار عمليات التجسس أن الصراع لا يزال قائماً، لأنه ليس صراعاً عابراً، ولكنه تاريخي يعود إلى ثلاثة آلاف عام.

خطر البيئة الحاضنة:

يعتقد الكثيرون أن تجسس الدول على بعضها البعض أمر يحدث دائماً، يجري في حالات الحرب والسلم على السواء. ولذلك تبذل البلدان جهوداً في مكافحته لحماية أمنها الوطني.

لكن هناك فرقاً بين بلدان تسود بينها علاقات عادية وتناقضات ثانوية، وبين بلدان تسود بينها تناقضات رئيسية لا يمكن حلها سوى بازالة مسبباتها التي لا تتمثل في مجرد اتفاقيات تحمل طابع التسوية السياسية التي تحقق أهداف من يقوم بعقدها حتى ولو كانت ضد المصالح الإستراتيجية لوطنه ومجمل مستقبله.

الصراع المصري العربي– الصهيوني يعتبر حالة نموذجية معبرة عن تناقض رئيسي– عدائي، موضوعي (أي بصرف النظر عن ارادتنا ووعينا)، لا يمكن حله سوى بانهاء وجود هذا الكيان الذي تم زرعه عنوة وقسراً. ولعل عمليات التجسس المتوالية التي يقوم بها  تؤكد هذا الأمر. كما تؤكده أهدافه المعلنة وممارساته في الاقليم كله.

لكن الخطر الداهم هو في تشكل بيئة حاضنة لتوالد شبكات التجسس لمصلحة العدو، تمت صياغتها عمداً ومع سبق الاصرار والترصد. وأصبحت كمرض خبيث توطن نتيجة توفر البيئة الملائمة لتوطنه، لا تصلح معه العلاجات الموضعية، ولا تحقق مقاومته النجاح الكامل دون القضاء على البيئة الحاضنة له، لإنقاذ الجسد. 

سفر تكوين البيئة الحاضنة:

ربما يتساءل البعض عن سبب عدم قطع العلاقات مع العدو الصهيوني أو حتى استدعاء السفير المصري أو تقديم احتجاج شديد اللهجة! وذلك ما يحدث بسبب مباراة كرة قدم. لكن ما حدث هو العكس تماماً. إذ جرى الإعلان عن زيارة يقوم بها رئيس العصابات الصهيونية الى مصر!

في نوفمبر 1977 كنت وعدد كبير من الرفاق في السجن رهن المحاكمة بتهمة الشيوعية. أعلن السادات عن مبادرته لزيارة كيان العدو ليعرض الصلح معه. كان عدد من الجواسيس السجناء المحكومين أو تحت المحاكمة يهللون فرحاً بالزيارة، ويتساءلون لماذا يظلون في السجن بينما رئيس الجمهورية قام بنفس ما قاموا به. رأيت أحد هؤلاء بعدها بأعوام في سجن آخر رغم أنه كان محكوماً بالإعدام لبشاعة ما قام به، وعلمت بأنه تقدم بالتماس استنادا لزيارة السادات وخفف عنه الحكم!

هنا بيت القصيد وجذر الموضوع. فقد أسقط السادات بالقول والفعل صورة العدو عن كيان العصابات. وجنى العدو كسباً هائلاً لم يكن يحلم به. كان هذا الأمر هو بداية «سفر التكوين» لإرساء البيئة الحاضنة للتجسس وبداية فقدان المناعة، وضعف روح الانتماء في بلادنا. 

الاكتمال:

دائماً ما كان السادات يردد عبارة «صديقي بيجن». حيث استبدل العدو بأعداء آخرين (الشعوب العربية– السوفييت– إيران بعد الثورة– الشعب المصري)، واستمر في بلورة وتعميق كل سياساته وممارساته على طريق التبعية والارتماء في أحضان العدو الصهيو– أمريكي حتى هلاكه.

تسارعت خطا الاكتمال في عهد مبارك، رغم أن العدو أفصح أكثر من أي وقت مضى عن أهدافه التي تتناقض بالمطلق ليس مع الأمن القومي العربي والأمن الوطني المصري فحسب، بل مع الوجود ذاته. فأعلن العدو عن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بكل ما يعنيه، دون أن تبدي السلطة المصرية أي انزعاج. وتم إغلاق ملف الأسرى المصريين الذين اغتالهم العدو في سيناء عام 1967. كثف العدو عمليات التجسس وتوالى سقوط شبكاته، وتوالى الإفراج عن الجواسيس قبل وبعد صدور الأحكام ضدهم دون استكمال العقوبات (عزام عزام) مثلاً الذي صال وجال في أفريقيا، خصوصاً في دول حوض النيل دون أي مقاومة لمخاطر هذا الأمر... الخ بكل تأثيرات ذلك وتعارضه المطلق مع متطلبات الأمن الوطني.

اكتمل فتح أبواب البلاد على مصاريعها لرأس المال الصهيو– امبريالي، لكن بصورة كيفية مهلكة بخصخصة الأصول فتخلل العدو مسام الاقتصاد المصري بالاستحواذ على جانب كبير منها وتدمير ما له قيمة إستراتيجية متخفياً وراء جنسيات أخرى أو بشكل علني وصريح. تراجعت الصناعة، والزراعة التي جرى اتلافها ويجري بيع الغاز للعدو بأسعار زهيدة في حين يلغي الدعم للمصريين وتعقد اتفاقية الكويز، أي يجري دعم اقتصاد العدو على حساب الوطن. وبيع الأسمنت لبناء السور وتمزيق الباقي من أرض فلسطين... الخ.

لقد شاع الجوع والحرمان والبطالة والتفاوت الطبقي وتركير الثروة في أيد قليلة، كما طال الفساد كل شيء، واستعرت في هذا المناخ روح التعصب، واشتعلت الفتنة الطائفية، وتحولت حياة المواطن إلى جحيم في وطنه. وتم تدمير التعليم والبحث العلمي والثقافة الوطنية والفن الجاد، وأتانا اليهودي «مردوخ» صاحب الإمبراطورية الإعلامية ليدس سمومه في مقومات حياتنا الروحية (إعلاماً وإنتاجاً فنياً... الخ) وأصبح التمويل الأجنبي زاداً لدوائر تتوسع من ميليشيات المطبعين والإعلاميين وغيرهم. بالخلاصة تم إضعاف شديد للانتماء الوطني والقومي.

لقد امتد تأثير الكارثة إلى تدمير النظام الرسمي العربي لأبعد حد بعد أن كان يمتلك قدراً من الصلابة حتى بداية الثمانينيات نتيجة لتخلي مصر عن دورها العربي. وتحول الخونة من العرب، خاصة في لبنان وفلسطين إلى أقرب الحلفاء، بينما تحول المقاومون والوطنيون إلى أعداء ألداء.

تعتبر النخبة الطبقية السائدة وسلطتها السياسية هي العمود الفقري  للبيئة الحاضنة للتجسس. إذ نشأت مصالح مشتركة بينها وبين العدو. حيث لا يعنيها سوى الربح والمشاركة في امتصاص دماء المصريين. وتعمل كل مافي وسعها لاستلاب الدولة المصرية متجردة من أي روح وطنية أو انتماء وطني.

في ظل كل ذلك فإن كل شيء مباح ومتاح. التجسس والخيانة هى مجرد رأي وسلوك سوي لا غبار عليه. والهجرة إلى الكيان الصهيوني وتهنئته باغتصاب فلسطين والتعامل معه مسائل عادية. فالعلاقات مع العدو إستراتيجية ولا تهتز لأي سبب.

هكذا تشكلت حاضنة التجسس والخيانة، التي تتطلب تغييراً جذرياً في الأوضاع  حتى يمكن إزالتها، والعودة إلى مواجهة عدو لن تتوقف ممارساته التدميرية وأهدافه التوسعية طالما ظل موجوداً في المنطقة.