جزاء عالم ضل في الشاشات

آلهة الانتقام لدى الإغريق، نيميسيس، تُنزل العقاب بالمتعجرفين الذين يبنون أنظمة متجبرة قوية للتحكم بالعالم من حولهم، معتقدين أن بمقدورهم تحدي الآلهة، وأنهم جديرون بأن يُعْبدوا. وعقوبة ارتكاب هكذا إثم، أبداً، كانت الموت.

«نيميسيس»، اشتقاق من الكلمة الإغريقية «némein»، يعني «منح ما يجب منحه». وها هي نيميسيسـ ـنا تدنو منا مسرعة، ولسوف ننال ما يجب أن نناله.

نتجاهل، لأجل خبل عبادة الذات، قِصَر نظر نخبتنا السياسية والاقتصادية الفاسدة، التي تنهب ثروة الأمة، لتصبها في مضاربات مالية وحروب أبدية، كما نتجاهل رِدّة المواطنين الشاملة إلى حالة الهستيريا، وانهيار الصروح من حولنا، بما فيها البيئة الحاضنة للحياة. ونحملق بشاشات إلكترونية مثل «نرسيسوس» المأخوذ بانعكاس صورته، فوق سطح بركة ماء، حتى خبا وقضى.

لمجرد أننا نمتلك المقدرة على شن الحرب، نؤمن بأن من حقنا شنها! نؤمن أن المال حقيقي، أكثر من الإنتاج والمنتج. نؤمن بحتمية تقدم القيم الإنسانية والمادية، ولا يهم كم من الضرر نُلحق بالأرض وبمجتمعنا، فالعلوم والتقنيات تنجّينا!

فيما يتواصل ارتفاع درجات الحرارة على سطح الكوكب، ويدمر الجفاف الأراضي الزراعية، ويهدد انحسار الحيود المرجانية بإبادة رُبع الكائنات البحرية الحية، وتجتاح الفيضانات دولاً كباكستان وبنغلاديش، وفيما نسمم هواءنا وماءنا وغذاءنا، ونأبى معالجة إدماننا على الوقود العضوي والفحم، وبينما نفكك قاعدتنا الإنتاجية ونرمي، للأبد، عشرات ملايين الأمريكيين إلى قاع حثالة الطبقات... ننقر على سطح شاشةٍ فنبتهج ونفرح!

نخلط بين المقدس والصورة الإلكترونية، انعكاس صورتنا. نتابع تلفزيون «الواقع»، أو مخاتَلة الواقع بالأحرى، نمرح بكوننا المتفرجين والفرجة. الواقع الحقيقي ممحو من وعينا. تُشكِّلنا الصورة الإلكترونية وتحدد معالمنا. الصورة تمنحنا هويتنا، وتخبرنا عما يمكن إنجازه في ديانة الذات الفسيحة، وما يجب أن نتمناه، ما يجب أن نسعى إليه كي نصير، وكيف نغدو ما نحن عليه. الصورة هي التي تخدعنا للاعتقاد بأننا بتنا أقوياء (العنف وتزيين الحرب أساس انتشار ألعاب الفيديو) بينما استعبدتنا دولة الشركات الاحتكارية العملاقة وخَصَتنا.

تحيلنا الصورة الإلكترونية إلى عبادة ذواتنا. إلى عماء الوثنية. يُستبدَل الواقع بتقنيات إلكترونية تزوّق عرض الذات (أساس المواقع الاجتماعية الشبكية كالـ«فيس بوك») وبأوهامٍ عن كمالها وتمَكنِها. وتجدنا في عالم لا ينفصل عن الحقيقة، وعن إمكانية القدرة البشرية ومحدوديتها في آن معاً، نعتنق الخرافة والشعوذة. لهذا وُجدت عبادة الصورة. بتنا نغور في ظلمة خوف أصم نابع من مطلق الجهل بالواقع، لندخل عصر البربرية التكنولوجية.

بالنسبة لأولئك الذين تبهرهم الصور، يبدو العالم منصة فسيحة، مدعوون ليمثلوا أحلامهم فوقها. عالم النشاط المتواصل والإثارة وتعزيز الشخصية. عالم الارتعاشات والنشوة اللحظية. عالم الحركة الدائمة، بنّاء صنم المنافسة. عالم تلعب فيه منتجات الإعلانات التجارية والألعاب الإلكترونية دور معالج نفسي مزيف يغذي مشاعر العزلة والاغتراب والضعف والعجز عن التأقلم. قد نكون عالقين في وظائف بلا مستقبل، وليست لدينا علاقات ذات فائدة، ومضطربي الهوية، لكن بمقدورنا، رغم ذلك، شق طريقنا نحو سلطان القوة بقبضنا على جهاز تحكم صغير أثناء تحديقنا في الشاشة، لساعات. وبمقدورنا أن نَسخر، طيلة اليوم، من الفقراء الجهلة الضعفاء، في برامج كلام القيل والقال، وعروض تلفزيون الواقع. بمهارة، جُعِلنا نشعر بأننا على علاقة شخصية مباشرة مع المشهورين، بارتباط مضلل، مثاله تدفق الحزن لوفاة الأميرة ديانا أو مايكل جاكسون. لم نلتقِ يوماً بأولئك الذين نهيم بهم، لكننا نعرف صورهم المصنَّعة التي تظهر لنا على الشاشة. ليسوا، على الأقل بالنسبة لنا، أناساً واقعيين. لكننا مع ذلك نعبدهم ونحب التشبه بهم.

في حالة الإيهام الثقافي هذه، يغدو كل وصف للواقع الفعلي مرفوضاً بوصفه «سلبي» أو «تشاؤمي»، لأنه لا يتناغم مع رونق الكلام الذي يسمم الأثير، من برامج «ناشونال ببليك راديو» حتى استعراض «أوبرا». والسخرية نصيب المتنبئين بالكوارث الذين ينفذون إلى وعينا كل لحظة، يَنشدون، في نوبة يأس، تحذيرنا من دمارنا الذاتي الوشيك، لأنهم لا يحررون وصفة مريحة تسمح لنا بالانزلاق في الوهم من جديد. نقول لأنفسنا إنهم يبالغون! إذا كان الواقع رديئاً، ولا توجد حلول سهلة، فلا نريد أن نسمع عنه شيئاً! كل حقائق الاقتصاد ودمار البيئة التي لا جدال فيها، لا تُناقَش إلا إذا تحولت إلى نكات مضحكة أو وردت مصحوبة بحل جاهز يحمل لنا فرحاً كذاك الفرح الذي تمدنا به نهايات الأفلام والألعاب الإلكترونية وبرامج الثرثرة، ويبلّد أدمغتنا ويجعلها أوعية خواء. كيّفتنا الهستيريا الإلكترونية على انتظار الكلام المفرح، على طلبه.

نخلط بين هذا الكلام المفرح والأمل. لا يتعلق الأمل بالإيمان بالتقدم. بل بالدفاع عن المستلزمات الإنسانية البسيطة وبطلب العدالة. الأمل هو الإيمان، وليس بالضرورة أن يكون ملموساً، بأن أولئك الذين أدى جشعهم وغباؤهم وإشباع رغباتهم إلى سقوطنا من أعلى المنحدر سيلقون مصيرهم ذات يوم. يتعلق الأمل بالوجود في حالة دائمة من التمرد، في الخصومة الأبدية مع جميع مراكز القوى. الأصوات الأخلاقية العظيمة، مثل جورج أورويل وألبير كامو، تصف بتفصيل مؤثر المعاناة الإنسانية التي نتجاهلها أو نبررها. لقد أدركوا أن مَلكة الخيال أهم أداة لصلاح الأخلاق. فالقدرة على إدراك ألم ومعاناة الآخرين، أن تشعر، كما يقول الملك لير، بشعور البؤساء، أكثر إصلاحاً للمجتمع من رفوف متخمة بالدراسات الدينية والفلسفية عن إرادة الإنسان. أولئك الذين يُرقّون العالم، ويمنحوننا الأمل، لديهم القدرة على جعلنا نخرج من ذواتنا وأن نشعر بالتعاطف مع الآخرين.

الثقافة القائمة على أساس المطبوع تستدعي العقلانية، حسب تعبير الكاتب «نييل بوستمان». والكلمة المكتوبة، بتعاقبها وإخبارها، تعزز ما يسميه وولتر أونغ «إدارة المنطق التحليلي للمعرفة». لكن عالمنا الجريء الجديد الصُوَري بغنى عن هذه السمات، لأن الصور بغنى عن أن تُفهَم. ولأن التواصل، في الثقافة القائمة على أساس الصورة، لا يتعلق بالمعرفة. إنما يتعلق بتلاعب الشركات العملاقة بالأحاسيس، لا يقينا منه سوى بعض منطقٍ، ونظام، وبيئة حاضنة. لأن التسلية والفرجة هدف كل فعاليات البشر، بما فيها السياسة، والتفكير محظور.

وظيفة المعرفة والفن، كما فهمها حكماء الإغريق، ابتكار المتعة واستحضارها، بما يعني خروج الإنسان من ذاته مانحاً حياته الفردية وكفاحه معنى وهدفاً. وظيفة الفنون والجامعة تنشئتنا كأفراد، لا تسليتنا كتجمعات. تغذية القدرة على التفهم والتعاطف. يسمح لنا الفن والجامعة قراءة البنى والرؤى الضمنية التي تُستخدم للتلاعب والتحكم بنا. ولهذا نظرت النخب التابعة للشركات إلى الفن، المسعى الفكري، بخوفٍ واعتبرته مدمراً. ولهذا السبب وظفت الشركات العملاقة أموالها في مسخ الجامعات وتحويلها إلى مجرد مدارس مهنية تطرح مدراء أنظمة جهلة ضيقي الأفق. ولهذا تذوي العلوم الإنسانية.

منصة التسالي الواسعة التي تحاصر ثقافتنا معدّة لاستحضار نقيض المتعة. التسلية الجماعية تعزف على أوتار أكثر غرائز الحشود فجاجة وأرذلها. تكيفنا على تناسخ طموحاتنا ورغباتنا. تجبرنا على ترداد الكليشات المبتذلة والشعارات ذاتها. تُجانِس كل التجربة البشرية. تتمرغ في «نوستالجيا» مسكرة ونزعة عاطفية تعززان فقدان الذاكرة التاريخية. تحيل الآخر إلى مجرد قالب أو رسم كرتوني. تمنع التعاطف لأنها أساساً تمنع الفهم. تنكر خصوصية الإنسان. وتؤكد لنا أننا جميعاً نختزن، في دواخلنا، القدرة أو الموهبة أو الفرصة لكي نكون أغنياء ومشاهير. تشكلنا قطيعاً واهناً مذعناً. ورغم أنف كل الكتاب الفلاسفة من سقراط إلى أورويل، قولبتنا على الإيمان بأن هدف الحياة ليس أن نفهم بل أن نتلقف التسلية.

ما لم نصحُ من الهستيريا، ونقاوم النخب التي تدمر البلد، وتلقي بالكوكب في سلة المهملات، فسوف نلقى عقاب الآلهة المهلك.