هزيمة الثورة المضادة بإرساء الشرعية الثورية
مرت الثورة المصرية التي لاتزال في أولى مراحلها بمحطات ثلاث، هي الأكثر أهمية منذ تفجرها في 25 يناير 2011.
كانت المحطة الأولى هي سقوط خط الدفاع الأول للنظام يوم الجمعة الدامي 28 يناير، إذ ألحق الثوار العزل هزيمة بقوات الأمن المركزي الجرارة في ميدان التحرير، وانسحبت هذه القوات دون انتظار لوصول القوات المسلحة حيث استهدفت السلطة وقوع صدامات بين الثوار والجيش، وبالتالي تنفيذ سيناريو كان معداً سلفاً لإحداث فوضى شاملة في البلاد تجهض الثورة في مهدها، وهو مالم يحدث. ورفع الثوار شعار «الجيش والشعب يد واحدة» وقابلهم الجيش بنفس الروح والسمو الوطني.
كانت المحطة الثانية هي خلع مبارك جبراً تحت وطأة الثورة المتصاعدة، وذلك عقب نزول الطبقة العاملة إلى معترك الثورة ككتل عمالية هائلة في أهم المراكز الصناعية، وعدم الاكتفاء بالنزول كأفراد في مظاهرات المدن المصرية بما أظهر حجم مشاركتهم وأضفى الاكتمال على التحرك الثوري، وهو ما حسم أمر مصير مبارك بخلعه من السلطة.
كانت المحطة الثالثة هي الإطاحة برئيس الوزراء أحمد شفيق، وتكليف د. عصام شرف بتشكيل الحكومة. غير أن الحدث المهم المرتبط بإقالة شفيق كان انهيار جهاز مباحث أمن الدولة. وعند هذه المحطة نتوقف لما يحمله هذا الحدث من دلالات، وما يشير إليه من مخاطر.
كان إسقاط حكومة أحمد شفيق هدفاً رئيسياً للثوار منذ خلع مبارك. فهو أحد رجاله المقربين. ومن ثم لم يكن مجرد أحد رموز النظام القديم، ولكنه كان أحد رؤوس الثورة المضادة– وتشير الوقائع الى أنه لم يستقل بل تمت إقالته– وأكدت الإقالة الخاطفة هذا الأمر بما حدث متلازماً معها تقريباً، أي الانهيار السريع لجهاز مباحث أمن الدولة، وكان هو العمود الفقري لحماية النظام القديم. حيث قام ضباطه بعملية إحراق واسعة لسجلاته وملفاته وسرقة الكثير منها، وهو ما عملت الجماهير على إعاقته قدر الإمكان بالهجوم على مقاره، وأهمها مقره الرئيسي بحي مدينة نصر بالقاهرة، وعدد كبير من مقاره بالقاهرة والمحافظات. ولم تكن مجرد مصادفة أن الثوار قرنوا منذ البداية مطالبتهم بإقالة أحمد شفيق بضرورة حل جهاز مباحث أمن الدولة وإقالة وزير الداخلية الذي اختاره شفيق، وهو صديق حميم له وللمدعو زكريا عزمي أحد أعمدة النظام القديم.
لن نتوقف عند مشهد اقتحام الجماهيرلمقار أمن الدولة، وهي التي تعرف مكامن الخطر على الثورة، ومطاردتها– في مشهد نادر– لمن وجدوه من الضباط الذين سبق وأن طاردوا المواطنين ونكلوا بهم لعقود من الزمن. لكننا نتوقف عند ما مثله هذا الجهاز في إطار إمبراطورية شاسعة ورهيبة هي وزارة الداخلية، أكبر الوزارات حجماً وعدداً وعدة وإمكانيات مالية. كانت مهمتها الأولى هي حماية وحراسة مبارك وأسرته وأعمدة النظام من المسؤولين وطواغيت المال واللصوص الذين نهبوا وجرفوا الثروة الوطنية، وارتكبوا في حق الوطن والشعب من الجرائم مالا يمكن حصره أو وصفه. فلقد تجاوز دور أمن الدولة حصار ومطاردة المعارضين السياسيين إلى التغلغل في كل مسام المجتمع، بالتدخل في كل شيء وفي كل مؤسسة لتكون له الكلمة الفصل، بدءاً من تعيين وترقية الموظفين حتى صنع القرار السياسي. والأكثر غرابة هو أن هذا الجهاز تضخم بشكل مفزع، حيث يعتبر العدد الهائل لضباطه من أهم الأسرار، وكان على ولاء مطلق لـ«جمال مبارك»، كما كانت هيئة الأركان في قيادة المعارك ضد الثوار تتشكل من: جمال مبارك، وزير الداخلية حبيب العادلي وأهم معاونيه هم قادة الجهاز، زكريا عزمي رأس مؤسسة الفساد في رئاسة الجمهورية.
أنتجت وزارة الداخلية واستخرجت من رحم مباحث أمن الدولة ما أطلق عليها «الفرقة 777». وكانت جهازاً مجهولاً يحظى بسرية مطلقة، مهمته تنفيذ العمليات القذرة شديدة السرية، وعلى رأسها التصفيات الجسدية بأساليب الجريمة الكاملة التي لا يمكن اكتشاف فاعلها، وغير ذلك من الجرائم.
وكان المنتج الآخر هو ما سمي «غرفة جهنم» ومقرها الحزب الحاكم سابقاً الذي أحرقه النظام السابق عمداً مساء الجمعة الدامي 28 يناير. وتعمدت وزارة الداخلية ألا ترسل سيارات المطافئ، حيث أكلت النيران «غرفة جهنم» وكل محتوياتها من تسجيلات ووثائق عن شخصيات النظام والمعارضة على السواء، وكل أسرار النظام القديم.
غير أن الأخطر هو أن جهاز مباحث أمن الدولة (ومعه بالطبع الفرقة 777) لم تقتصر مهامه على مجال عمله الطبيعي المقرر وهو الداخل الوطني، بل امتد مجال عمله إلى الخارج. وهنا نتذكر أحداث جرت في لبنان منذ سنوات قليلة، فلو صح ما تردد عن مشاركة مصريين فيها، فهي دون أدنى تردد من فعل هذا الجهاز وهذه الفرقة الملعونة.
مؤخراً قام الجيش بإلقاء القبض على عدد كبير من ضباط مباحث أمن الدولة، ووضع يده على كل مقار هذا الجهاز. لكن الأخطر هو ضبط سيارتين معبأتين بالأسلحة بمنزل أحد ضباط هذا الجهاز بالجيزة، تسلمهما الجيش، فما هي دلالات هذا الأمر، ولأي غرض تستخدم هذه الكميات من السلاح؟
رغم كل ذلك تعلو الأصوات لتحسين صورة هذا الجهاز وإمكانية إصلاحه وتهذيبه. رغم أنه عصي على الإصلاح (حتى لو كان به بعض الأبرياء). ويجري ذلك للحيلولة دون إلغائه والبحث عن حلول فعالة تقي المجتمع أضراره وخطره. كما تجري في هذا السياق أيضاً محاولات للحيلولة دون تطهير وزارة الداخلية من الضباط الفاسدين.
المشهد إذاً في غاية الخطورة. إذ أن النظام الذي تهاوت بعض أركانه يستجمع قواه، ويقوم بالتحضير لهجوم مضاد. وإن روافد القوى المضادة للثورة في الداخل والخارج تستكمل جاهزيتها مستخدمة مقولة «الشرعية». والحديث الزائف عن الديمقراطية، وإدعاء الثورية وهم ألد أعداء الثورة بالعمل على تقليص المرحلة الانتقالية لأدنى حد والتعجيل بانتخابات سريعة تفرز برلماناً لا يقل سوءاً عن البرلمان المنحل. أو باللجوء إلى سيناريو آخر هو العنف والفوضى، أو بتسيد النهج الإصلاحي الداعي والمروج لإمكانية تهذيب النظام القديم وترشيد أداء الطبقة الرأسمالية المتوحشة السائدة حتى الآن رغم استحالة هذا الأمر أو باستخدام هذه السيناريوهات مجتمعة. فهذه القوى تمتلك مواقع مؤثرة في مؤسسات الدولة، كما تمتلك إمكانيات مالية وإعلامية هائلة. ولا ينبغي أبداً نسيان المخاطر الخارجية الهائلة الآتية من الجنوب (إنعاش مشكلة مياه النيل وتمزيق السودان)، ومن الغرب المخاطر الخارجية على الثورة الليبية ومن الشرق العدو الصهيوني.
إن المسكوت عنه، هو أن شرعية نظام «السادات– مبارك» قد سقطت. وأن شرعية جديدة قد قامت منذ الأيام الأولى للثورة. شرعية أقامها ثوار الشعب المصري من المدنيين والعسكريين على السواء. شرعية «الشعب والجيش يد واحدة».
في مواجهة الأخطار الهائلة على الثورة، لا سبيل سوى الانتقال إلى الشرعية الثورية الجديدة، وإخراجها إلى النور، للتصدي بالشعب والجيش معاً للقوى المضادة للثورة، ولاستكمال المسيرة الثورية وتحقيق الانتصار.
القاهرة في 8 مارس 2011