الاصلاحيون اليساريون يتجمعون
مع بدء التشقق الذي أصاب الإصلاحيين الليبراليين، وفي القلب منهم جماعة البرادعي، «الجمعية الوطنية للتغيير» التي تخلى البرادعي عن رئاستها، وما انتاب الإصلاحيين من الشيوعيين السابقين من هلع بعد أن أقبل عدد كبير منهم على الانضمام إلى الجمعية، هرعوا مؤخرا للعمل على توحيد جهودهم بعقد ما سمى بـ«المؤتمر الأول لليسار المصري» بمقر حزب التجمع.
لماذا الآن؟
في المراحل الفارقة في حياة المجتمعات، وحيثما تحتدم الأزمة لحدودها القصوى، ويصبح الاستحقاق الحتمي هو التغيير الجذري، فإن كل القوى بمختلف رؤاها وبرامجها تسعى لتتخذ لنفسها مكاناً وتحدد موقعها في الصراع المحتدم. وحيث تتبلور قوى التغيير الجذري فإن القوى الإصلاحية بمختلف منابعها– وإن كانت تتفق على جوهر واحد وهو الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم مع إعادة طلائه وإضافة بعض الرتوش لتحسين صورته دون جوهره– تهرع لتنسيق وتوحيد جهودها سعياً منها إلى مصادرة التغيير الجذري المطلوب.
لاشك أن قوى اليمين الليبرالي الصريح وقوى اليسار الاصلاحي المتفقة والمتطابقة مع اليمين الليبرالي تدرك جيداً الخبرة التاريخية المصرية بوجه خاص.
في السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية اشتعلت الحركة الوطنية المصرية وبلغت ذروتها عام 1946. كان عمودها الفقري الشيوعيون و«الطليعة الوفدية» التي تكونت من شباب حزب الوفد الذي حمل آنذاك رؤية وموقفاً على يسار الوفد وتأسست بواسطتهما «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة». وتحت وطأة اشتعال الحركة الوطنية اضطرت بريطانيا لإخلاء المدن المصرية من قوات الجيش البريطاني، وجرى تركيزها في قواعد بمنطقة قناة السويس. غير أن ذلك لم يهدئ حالة المد الوطني. واستمرت قوة الدفع حتى عام 1948 (حرب فلسطين) التي أدت إلى خروج الشيوعيين من المعادلة السياسية نتيجة تأييدهم لقرار التقسيم ونفوذ اليهود الطاغي داخل منظماتهم، رغم الانقسامات الواسعة في أكبر هذه المنظمات والتي قادها الشيوعيون الحقيقيون المعارضون لذلك (الشهيد شهدي عطية الشافعي– زكي مراد– عبد العظيم أنيس).
حينما اشتعلت الحركة الوطنية من جديد بعد اكتساح الوفد للانتخابات البرلمانية، وبدء الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال بمبادرات شعبية، اضطر حزب الوفد لإلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا، وقام ببعض الاصلاحات مثل مجانية التعليم في المرحلة الابتدائية وإدخال المياه النقية لبعض القرى إلى آخر هذه الاصلاحات الجزئية. غير أنه وبحكم الطبيعة الطبقية لقيادته لم ينهض بأي من الاستحقاقات الملحة التي تلبي طموحات الجماهيرومتطلبات المرحلة، وفي القلب منها نظام الملكية في المجتمع (شبه الإقطاعي، شبه الرأسمالي، الذي يسيطر فيه رأس المال الامبريالي وفي قلبه الرأسماليون اليهود). ونتيجة لذلك، وللعمل على مصادرة المد الشعبي جرى «حريق القاهرة» يوم 26 يناير 1952 بفعل فاعل، وأقيلت حكومة حزب الوفد العاجزة عن الاقتراب من الاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة من جهة، والعاجزة عن تهدئة الصراع الطبقي والوطني وضبط ايقاعه في حدود الحفاظ على النظام الاجتماعي السياسي المأزوم. ودخلت البلاد إلى مرحلة من القمع الهائل، حتى تصدى الجيش للمهمة ليلة 23 يوليو 1952.
يعي الإصلاحيون بمختلف منابعهم هذا الدرس، ومن هنا يبدأ نشاطهم الواسع لمصادرة المستقبل.
جوهر إصلاحية اليسار الزائف:
ينهض اليسار الزائف بتعزيز التيار الاصلاحي الرامي إلى الحفاظ على النظام الراهن اكتفاء بتغيير شخوص هنا وهناك، دون الاقتراب من نظام الملكية الذي أنتج الأزمة الشاملة في المجتمع وأفضى إلى التبعية المطلقة والصلح المشين مع العدو الصهيوني وتعزيزه والاستبداد والفساد وتجويع الشعب... الخ. بالعموم تدمير الوطن. ويتخفى هذا اليسار الزائف وراء الحرص على تجنيب البلاد الوقوع في قبضة قوى الارهاب، والمطالبة بضرورة الاعتدال والوقوف ضد المناضلين من أجل التغيير الجذري ويتهمهم بالتشدد.
لذلك فهؤلاء الإصلاحيون يتجاهلون تماماً وبوعي تحديد التناقض الرئيسي الماثل، وهو «التناقض بين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين من جهة، وبين الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين من جهة أخرى». ذلك أن التصدي لحل هذا التناقض يحتم بوضوح لا لبس فيه إنهاء حكم الطبقة الغاصبة للثروة والسلطة وإرساء سلطة جديدة وطنية وتقدمية، وهو ما يفتح الباب للتقدم الاجتماعي والاشتراكية. إن عدم تحديد التناقض الرئيسي الذي يفرض استحقاقات هائلة على المستوى الوطني (على كل الأصعدة)، والإقليمي والقومي والأممي ينتج التشوش ويزيف الوعي عمداً مع سبق الاصرار والترصد.
نظرة سريعة على بعض ما ورد من أفكار تضمنتها أوراق هذا المؤتمر توضح طبيعة البناء الفكري والسياسي لأصحابه. على سبيل المثال: تساؤلات عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية (وكأنها بحاجة لدراسة). ضرورة دراسة الصراع العربي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية (وكأنها قضية غامضة). إضافة إلى أفكار سائدة بينهم طرحتها الأوراق «هناك تيارات يسارية أعلنت بوضوح وبالذات في الفترات الأخيرة أن الموقف من الديمقراطية هو أساس أي فرز سياسي ومحدد وحاسم يهدف إلى تحديد الحلفاء والخصوم»!! و«التحالف مع القوى الديمقراطية– حتى مع تلك القوى التي لا تؤمن بالعدل الاجتماعي– سيفضي بالضرورة إلى العدل الاجتماعي المنشود»!!
لكن العمود الفقري للبناء الفكري– السياسي عبرت عنه فقرة وردت في البيان الختامي «...واليسار يؤكد أن تياراته المختلفة قد أجمعت على أهمية المساهمة في الحراك السياسي المصاحب لمعركة الانتخابات البرلمانية بغرض تغيير شروط الانتخابات غير الديمقراطية أصلاً وذلك إما من خلال مقاطعة هذه الانتخابات أو من خلال التقدم بمرشحين لهذه الانتخابات، كما وأن كافة تيارات اليسار تؤكد ترحيبها البالغ بكل المبادرات الرامية إلى بناء تحالفات وائتلافات ديمقراطية ومن بينها الجمعية الوطنية للتغيير وائتلاف أحزاب المعارضة، وتؤكد أن هذه الجهود الائتلافية فضلاً عن مواقف وتصريحات أقطاب المعارضة الديمقراطية إنما تعد خطوات ضرورية لأي تغيير سياسي وديمقراطي في مصر من المقدر أن يتوج بعقد جمعية تأسيسية تضع للبلاد دستوراً جديداً وتعلن عن قيام جمهورية ديمقراطية»!!
الجوهر إذاً هو تحسين شروط الانتخابات. وذلك لن يتم في ظل سلطة الطبقة العميلة الحاكمة. الجوهر هو نبذ الطريق الثوري الذي تفرضه الأوضاع القائمة في مصر، وهو بالأقل عصيان مدني سلمي كطريق وحيد لتخليص البلاد من هذه السلطة، وتجنب إغلاق باب التطور والتغيير السلمي.
لم يكن غريباً عدم ورود كلمة «الماركسية» إطلاقاً، أو عبارة «الصراع الطبقي». كما لم يرد أي تحديد لـ«أطراف الصراع»، رغم أن الحضور جميعاً ادعوا في الماضي– ولا يزال بعضهم يدعي– أنهم شيوعيون. لكن الفضيحة الأشد تتمثل في عدم ذكر كلمة «المقاومة» إطلاقاً.
وليس بمستغرب أن يجري ذلك، طالما يقف وراء هذا العمل شيوعيون مرتدون، وشيوعيون متصهينون، وشيوعيون متمولون امبريالياً وصهيونياً. وسوف تظهر حقيقة من يقف وراء هؤلاء من خارج الحدود في يوم من الأيام. فلنتصدَّ.