أوباما نموذجاً لتأريخ اللحظة
شهدت فترة حكم جورج بوش الابن تحالفاً بين المحافظين الجدد والليبراليين، أو بالأحرى تواطؤ الليبراليين مع التيار الأقوى المتركز في الحزب الجمهوري الذي كان قد وصل إلى سدة السلطة بعد أن أنهك إدارة بيل كلينتون ديمقراطي الانتماء، واستغل لاحقاً أحداث أيلول 2001، لتثبيت مواقعه وتحويل الليبراليين إلى خدم، طوعاً، فلطالما تمتع الليبراليون بجبن أخلاقي عبر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حسب رأي الكاتب «كريس هيدجز» (قاسيون، العدد 458، ص9).
وعقب حربين على أفغانستان والعراق بذريعة حرب دائمة على ما يسمى الإرهاب، وإصدار حزمة قوانين تقضم حريات الشعب الأمريكي، ومجموعة إخفاقات اقتصادية داخلية وسياسية خارجية، ليست مجال البحث هنا، خسر الحزب الجمهوري ومعه المحافظون الجدد شعبيتهم وموقعهم الرئاسي، وجزءاً هاماً من نفوذهم الاقتصادي، وساءت سمعتهم، خاصة بعد ظهور الأزمة المالية إلى السطح، وتتابع آثارها على مستوى حياة الناس. ليعود الحزب الديمقراطي إلى السلطة ممثلاً بأوباما المدعوم من التيار الليبرالي ومن كل «المتفائلين بالخير»، عله يحمل في جعبته حلولاً سحرية لأزماتِ إمبراطوريةٍ على وشك الأفول.
من جهتهم، ورغم كل خسائرهم، لم يدب اليأس في قلوب المحافظين الجدد، صقور الإدارة الجمهورية السابقة، المخترقين لصفوف الإدارة الحالية، وما زالوا حتى اليوم يؤمنون بقدرتهم على استعادة السلطة، وأحقيتهم بها، ويعملون كل ما من شأنه خدمة هذا الهدف. ولم تنقصهم الخبرة التاريخية لإيجاد التكتيك الملائم للمرحلة.
منذ الأسابيع الأولى لاستلام أوباما السلطة، وتحت عنوان «هل تواجه الولايات المتحدة خطر الارتداد نحو الفاشية»، حذر الكاتب الأمريكي روبرت فريمان من مواجهة الولايات المتحدة لما أسماه «لحظة فايمر» بالقول: «إثر الخسارة الساحقة التي منيت بها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، تولت حكومة جديدة عملية إعادة بناء البلاد المدمرة في أوائل عام 1919، ولكن القوى اليمينية التي زجت البلد في الحرب وأغرقتها بالهزيمة، كانت تتآمر لتدمير حكومة «جمهورية فايمر»، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها. ونجحت في مؤامرتها. تواجه الولايات المتحدة الآن «لحظة فايمر» مشابهة. فبعد ثماني سنوات من حكم الجمهوريين جلل الانهيارُ الاقتصادي المدوي قيادةً اليمين وسياساتها بالخزي الشامل. ولكن كما كانت عليه الحال في ألمانيا 1919، لا يعتزم الجمهوريون السماح للحكومة الجديدة أن تنجح. وسيبذلون أقصى جهودهم لتقويضها. وفي حال تمكنوا من ذلك فقد تسير الولايات المتحدة على الدرب الذي سلكته ألمانيا فايمر».
وكما كانت عليه الحال في ألمانيا، عام 1919، الملقبون في أدبيات الصراع الأمريكي الداخلي باليمين عن جدارة، اعتزموا تقويض أسس أي نجاح يمكن أن يحرزه الليبراليون (حاملو لقب اليسار زوراً). وبغض النظر عن مسؤوليتهم عما آلت إليه أوضاع الولايات المتحدة داخلياً، وعن قدرة الليبراليين أو عجزهم عن حل مشكلات البلد وأزماتها، انصب نشاط اليمين خلال عام ونصف العام من حكم أوباما على إجهاض وإعاقة كل مشروع يتقدم به الرئيس أو أنصاره. ومن جهة أخرى تسعير الغضب ضد الإدارة الحالية العاجزة عن حل المشكلات المتعلقة بحياة الناس ومستوى معيشتهم، وكل ما يتعلق بالسياسة الداخلية للحكومة الأمريكية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، انصب نشاط اليمين، من جهة، على إثبات ضعف الرئيس في معالجة الملفات الساخنة و»نعومته» إلى حد الجبن في التعامل مع الأعداء، الأمر الذي يؤدي إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة وزعزعة مكانتها عالمياً! ومن جهة أخرى دفعه نحو تبني برنامجهم السياسي العسكري ذاته، ليس من حيث المحتوى فقط، بل من حيث وسائل التنفيذ أيضاً. ونجحوا.
فالرئيس الذي كان في أوائل ولايته يتيح الفرصة، ولو لفظياً بالنسبة لنا، أمام الحلول السياسية والدبلوماسية، أضحى، بعد أقل من عام، أكثر اعتماداً من سلفه على الطائرات القاذفة بلا طيار في أفغانستان. ومع بدء عامه الثاني أصبح أكثر صرامة في تشديد العقوبات على طهران، وانتهى مؤخراً إلى إرسال البوارج الأمريكية إلى منطقة الخليج، وإعداد سيناريوهات الضربة المحتملة لإيران، التي تتضمن اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية. إضافة إلى «الصاروخ المشبوه» الذي استخدمه كذريعة لتشديد الحصار على كوريا الديمقراطية، تمهيداً لضربها أيضاً.
وعلى أية حال، يبدو أن تكتيك اليمين قد نجح وانقضى الأمر إلا قليلاً. مع استعداد إدارة أوباما لشن حروب أكثر من الحروب التي خطط لها بوش وفريقه، وعجزها بنيوياً عن تخفيف آثار أزمة عام 2008 المالية، وعن منع الطور التالي من الأزمة، والمتوقع له أن يكون أقسى من سابقه وفقاً لتحليلات الاقتصاديين الغربيين، سنشهد في المرحلة اللاحقة تقدم اليمين الأمريكي الذي يتنبأ المحللون أن تبرزه نتائج الانتخابات النصفية في تشرين الثاني المقبل، حيث يتوقع أن يحصد اليمين نتاج تعبئته الناس المحبطين والمستائين من تدهور أوضاعهم المعيشية، وتنظيمه لهم في إطار مطاط يسمى «تي بارتي Tea Party»، وبأشكال مختلفة، يضم خليطاً من التجمعات المتعصبة دينياً حتى المتحررة اجتماعياً، مروراً بجماعات عنصرية مختلفة الألوان والمشارب، لا جامع بينها سوى الغضب العنيف الموجه نحو السلطة القائمة.
وما الخيارات المتاحة لأوباما في ظل الأزمة الاقتصادية؟
إذا كان فريمان قد حذر من مواجهة الولايات المتحدة لما يشبه «لحظة فايمر» إبان انتهاء الحرب العالمية الأولى وإعادة تقاسم مناطق النفوذ بين إمبراطوريات تلك الحقبة، فيصح تحذير العالم اليوم من مواجهته ما يشبه «لحظة هتلر»، عام 1939، عشية إطلاقه الحرب العالمية الثانية بهدف السيطرة على العالم كله.
ومهما يكن الخيار الذي يقع عليه أوباما، الأرجح أنه سيتيح لكريس هيدجز فرصة تدوين «الكامل في تاريخ الجبن الليبرالي الشامل»، في المستقبل المنظور.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.