التنظيم النقابي المصري إلى أين؟
إحدى سمات المرحلة الراهنة في مصر أنها تموج بالصراع حول القضايا الكبرى، والجزئية المكونة لها. وهو صراع لا يدور بمعزل عن الصراع العالمي الأشمل، خاصة وأن اقليمنا أصبح بؤرته ومركزه.
ينهض مشروع الشرق الأوسط الجديد المعلن دون مواربة، والذي هو الغاية والهدف الرئيسي لإرساء هيمنة الامبريالية والصهيونية، ينهض على تفتيت بلدان المنطقة. وفي هذا السياق يعتمدون أسلوب تفتيت كل مقومات التماسك الاجتماعي عبر الفتن والصراعات الدينية والمذهبية... الخ، وصولاً إلى تدمير الاقتصاد الوطني والثقافة الوطنية، وتخريب الحياة السياسية. ويذهبون إلى أعماق بعيدة بغير حدود. وهي أمور لعبت الطبقة المهيمنة في النظام القديم ، والتي لا تزال هيمنتها قائمة حتى الآن دورها في دعم الهدف الصهيو – امبريالي.
كان على أولويات هذه الطبقة العمل على صياغة البنية الطبقية للمجتمع المصري بما يكرس التكيف مع نظامها وتبعيته وخيانته ونهبه الوحشي واعتماده على الحماية الاسرائيلية والأمريكية. وفي مقدمة هذه الأولويات تدمير الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي، وحرمانها من منبرها السياسي المستقل.
جرت تطورات عديدة بالنسبة للتنظيم النقابي الذي بذلت من أجله الطبقة العاملة المصرية تضحيات هائلة على مدى قرن كامل، أهمها:
الضغوط والترهيب والتنكيل الذي عانى منه النقابيون الشرفاء والمتمرسون للقضاء على استقلالية التنظيم وحرمانه من إدارة شؤونه بديمقراطية. وتم ذلك بتدخل شديد الشراسة من جهاز «مباحث أمن الدولة»، حيث كان يتم استبعاد أعداد كبيرة من النقابيين من الترشح للانتخابات النقابية. كما كان يتم استبعاد أعداد كبيرة أخرى عن طريق تزوير نتائج الانتخابات. وهو ما حول التنظيم النقابي في كل مستوياته إلى مرتع للعناصر البوليسية، وأفقده أي فعالية، بل تحول إلى موقف العداء لمصالح الطبقة العاملة.
في هذا السياق ومنذ وقت مبكر تمت حثيثاً عملية صياغة لأرستقراطية نقابية بأساليب شتى، كان من أبرزها انشاء «بنك العمال» الذي كان يرأس مجلس ادارته رئيس اتحاد العمال، كما كان يشغل عدد من قادة الاتحاد عضوية مجلس الإدارة، إلى جانب امتيازات للقيادات العليا والوسطى.
وجاءت الخصخصة لتلعب دوراً كبيراً بما صاحبها من تصفيات واسعة وتسريح للعمالة في الوحدات المباعة بمن فيهم من نقابيين، إضافة إلى الإحالة للمعاش المبكر.
وكان قانون العمل الموحد بمثابة ضربة قاصمة، إذ حرم العمال من الحماية. وللأسف فقد لعب نقابيون حكوميون وحتى يساريون دوراً كبيراً في تمريره، وفي ظله تكرس حرمان عمال القطاع الخاص واقعياً من تكوين النقابات.
لقد أسفرت هذه التطورات وغيرها عن إفراغ التنظيم النقابي من جوهره ككيان يدافع عن حقوق العمال الاقتصادية. بل لم يقف الاتحاد أو اللجان النقابية بجانب أي اضراب خلال أوسع حركة اضرابية واحتجاجية تشهدها مصر خلال السنوات الثلاث الماضية إلا فيما ندر، وبطرق مخادعة واحتيالية، كان يعود العمال بعدها إلى الإضراب.
بالمقابل، وعلى الناحية الأخرى فقد سارت التطورات على الوجه الآتي:
بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي دعوة للتعددية النقابية انعكاساً لحالة اليأس وتدني الوعي بمخاطر تقسيم الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي. رغم أن هذه الدعوة قد عملت على أن تكتسي برداء «ثوروي برجوازي صغير»، بديلاً عن النضال الجدي والصبور والمتواصل بين العمال لاستعادة التنظيم النقابي موحداً، والنضال من أجل استقلاليته وديمقراطيته، وصد الهجمات عنه. وللأسف فإن حاملي هذه الدعوة الخطرة كانوا يساريين يفترض فيهم الحرص على وحدة الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي.
مع الموجة العارمة لكارثة التمويل الأجنبي «الصهيو– امبريالي» تحت شعارات المجتمع المدني وحقوق الإنسان التي أقبل عليها بحماس شديد منذ البداية يساريون (شيوعيون وناصريون). فقد سارع البعض من بقايا «المرحلة اليهودية» في الحركة الشيوعية المصرية إلى مد اختراق التمويل الأجنبي إلى الطبقة العاملة بتأسيس العديد من المراكز العمالية الممولة أجنبياً بسخاء. حيث أصاب العمال القائمون عليها قدراً من الثراء، وأصاب بعضهم ثراء أحدث نقلة طبقية هائلة لهم، وتكونت حولهم مجموعات من المنتفعين والمروجين للأجندات الأجنبية. وعلى رأس هذه الأجندات كارثة «التعددية النقابية»، وذلك بحجة سيطرة الأمن على التنظيم النقابي.
مع قيام نقابة موظفي الضرائب العقارية اعتبرها مؤسسها أول نقابة مستقلة، إلا أنه لم يتفهم الفرق بين الاستقلالية وانقسام الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي. بل اعتبر أنها نواة لاتحاد عمال موازي ومستقل.
وسرعان ما بدأت اتصالات منظمات نقابية تابعة «للاتحاد الحر» في أمريكا الشمالية وأوربا بأصحاب المراكز وهذه النقابة المستقلة، وجهت لهم الدعوات لتلقي جوائز وأوسمة ولحضور مؤتمرات يتم تكريمهم فيها. وهو الأسلوب نفسه الذي سبق اتباعه مع أصحاب مراكز حقوق الانسان والمجتمع المدني الذين كرمتهم الادارة الأمريكية واستقبلهم الكونجرس. كما أنه نفس الأسلوب الذي اتبع مع بعض قيادات جماعة شباب 6 ابريل الذين تواصلت معهم الادارة الأمريكية وقبلوا التمويل الأجنبي بما تسبب في خروج عدد من القيادات المؤسسة الملتزمة وطنياً والرافضة للتمويل الامبريالي.
مع تفجر ثورة 25 يناير تعالت أصوات أصحاب الدعوة للتعددية النقابية، وتواصلت الدعاية المكثفة لإقامة اتحاد أو اتحادات عمالية موازية. وتأسست بالفعل عدد من النقابات وفق هذا المفهوم. وبرزت دعوة جماعة الاخوان المسلمين لإقامة اتحاد عمال إسلامي، وبالفعل أسس الاخوان أكثر من نقابة إسلامية.
تعزز هذا الاتجاه نتيجة مباركة وزير القوى العاملة في الحكومة اليمينية الحالية لقيام هذه النقابات. بل وأعد مشروع قانون لما أسماه «الحريات النقابية» الذي يفتح الباب أمام تفتيت الحركة النقابية وينهض على أساس هيمنة من يسمون «رجال الأعمال» عليها.
وهكذا فإن المعضلة الماثلة تكمن في أنه لا يمكن الدفاع عن اتحاد العمال الغارق في الفساد والتبعية للنظام القديم بتكوينه الراهن، والذي يقبع رئيسه في السجن بسبب ضلوعه في الترتيب «لموقعة الجمل»، كما أن وزيرة القوى العاملة السابقة حاملة الشهادة الإعدادية وخريجة الاتحاد المذكور والتي حصلت على المنصب الوزاري بسبب قيامها بتقبيل يد «سوزان مبارك» تم التحقيق معها في نفس القضية، وأفرج عنها بكفالة على ذمة القضية.
كما ينبغي للحفاظ على وحدة الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي ضرورة التصدي بحسم لإفشال مساعي تفتيتها، التي تقف خلفها قوى صهيو– امبريالية مستخدمة التمويل السخي للقائمين على هذه الدعوة.
في هذا الصدد يتبلور رأيان لمواجهة التفتيت:
يقوم الأول على دعوة الطبقة العاملة لممارسة ضغوط وتحركات ومظاهرات مليونية ومستمرة لمطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يمتلك صلاحية التشريع لإصدار قانون جديد للنقابات العمالية يضمن وحدتها واستقلاليتها وديمقراطيتها وتطهيرها من الفساد. يصاغ مشروعه بواسطة قادة الاضرابات العمالية الذين برزوا خلال السنوات الماضية، ويشاركهم في صياغة المشروع عدد من القانونيين والسياسيين المنحازين للطبقة العاملة وتنظيمها النقابي المستقل والموحد والديمقراطي، وتجري الانتخابات على أساسه.
الرأي الثاني ينهض على أمل أن يقوم العمال في الانتخابات النقابية القادمة بالإطاحة بعناصر التنظيم النقابي، حيث يصعب اصدار قانون جديد في غياب مجلس الشعب.
المرحلة القادمة سوف تشهد عملية صراعية واسعة النطاق بين خطين. خط التفتيت الذي يسوق إلى الجحيم والذي يعتبر أحد مكونات تفتيت الوطن وتمرير المشاريع الصهيو– امبريالية في المنطقة. وخط التوحيد على أساس الاستقلالية والديمقراطية الذي يحفظ للطبقة العاملة وجودها، وهو أحد مكونات التصدي لمشروع الأعداء وانقاذ الوطن.