برق الانتفاضة يومض في سماء الوطن

تشهد الضفة الفلسطينية المحتلة، موجات متلاحقة من الاحتجاجات الجماهيرية، على ممارسات الغزاة المحتلين، وعلى نهج سلطة المقاطعة، السياسي والاقتصادي/الاجتماعي. وقد جاءت النقلة الجديدة في الحراك المتجدد على شكل هبةٍ، تزداد حيويةُ حركتها بفعل نضال الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية التي يخوضونها منذ عدة أشهر، من أجل انتزاع حريتهم من جلاديهم المحتلين، والتي زادت من حدتها واتساع رقعتها، داخل المعتقلات وخارجها، حادثة استشهاد «عرفات جرادات» بعد عدة أيام من اعتقاله، تحت التعذيب الوحشي _ الإعدام البطيء_ في أحد السجون الصهيونية.

في ظل هذا الوضع المتفجر، يحاول البعض، من السياسيين والكتاب والإعلاميين، تحليل اللحظة الراهنة واستشعار المستقبل، بطرح السؤال التاليهل نحن أمام انتفاضة جديدة؟ يعطونها الرقم « ثلاثة « انطلاقاً من الأولى عام1987 والثانية عام 2000 والثالثة في عام 2013، باستنتاج رقمي، يفصل بين الأولى والثانية ثلاثة عشر عاماًفهل نحن في ظل هذا الرقم أمام تفجر انتفاضة جديدة؟

بداية، فإن تعداد الانتفاضات والهبات الجماهيرية في وجه الاستعمار البريطاني، وفي مواجهة توطين اليهود «المستعمرين الجدد « للأرض الفلسطينية على مدى عدة عقود، قد تجاوز الرقم ثلاثة بكثيرإن حالات التعبير عن حجمالغضب الذي تختزنه الجماهير العربية في الأراضي المحتلة عام 1967، تتجلى في المواجهات التي لاتكاد تغيب عن شوارع مدن وقرى الضفة الفلسطينيةهذه المواجهات التي تتم مع أجهزة أمن السلطة،أحياناً، كما ظهرت أثناءمظاهرات رفض زيارة المجرم «موفاز» لمقر المقاطعة في رام الله المحتلة، التي قادتها الشابات والشباب المنضوون في إطار» فلسطينيون من أجل الكرامة». وفي الاحتجاجات الواسعة على السياسات الاقتصادية لحكومة فياض.وفي غالب الأحيان مع قوات الاحتلال وقطعان مستعمريه، من خلال أشكال عديدة من التجمعات الاحتجاجية الأسبوعية في بلعين ونعلين والنبي صالح، وفي بناء القرى «الرمزية» في مواجهة مصادرة الأرض لبناء المستعمراتالجديدة.

لكن التعبير الأبرز عن كسر حاجز الخوف، كان في مواجهات رام الله وقلنديا ونابلس والخليل، وغيرها، التي قادها شباب الجامعات والمعاهد العليا للتضامن مع أبناء شعبهم الصامد في القطاع، وفي نقد موقف السلطة، الذي لميرتق لضرورات المواجهة مع حكومة العدو، بما يتناسب مع الرد العنيف للشعب وقواه المقاتلة على العدوان الوحشي على غزة مؤخراًفي تلك الأحداث، كانت كل المؤشرات تؤكد على إمكانية اتساع المواجهات بالضفة،على وقعوصول صواريخ المقاومة إلى مدينة يافا وجوارها، ومحيط مدينة القدس، وعلى صمود المجتمع الأهلي بوجه العدوانلكن التحركات الإقليمية والدولية، والاستجابة السريعة لـ «جهود الوسطاء!» لعبت دوراً في إعلان التهدئة،الذي ساهم  بتخفيف الاحتقان بالضفة.

كانت _ وماتزال _ قضية الأسرى، المحرك المباشر للمواجهات الراهنة في الشارع الفلسطينيلكن عوامل التفجير المساعدة لاتغيب عن وهج التحركات، التي يزيد من لهيبها، انسداد الأفق أمام برنامج التحرير بسبب موقفالسلطة «الانتظاري» الذي  يراهن على إعلان برنامج حكومة العدوالجديدة، وعلى نتائج زيارة أوباما المتوقعة بعد أسبوعين، في قدرتها على تحريك قطار المفاوضاتاللافت لنظر المتابعين لحركة الاحتجاجات الأخيرة، إطلاقشعاراتهتافات تستنكر موقف السلطة والفصائل على حدٍ سواء، تجاه العديد من القضايا، وخاصة الموقف من الأسرى، الذين أكد المتظاهرون على أنهم باتوا وحيدين في المواجهةلم تكن هذه العناوينالمهمات هي الوحيدة  التيشكلت رافعة للنضال الوطني التحرريفقد لعب الوضع الاقتصادي المتدهورارتفاع أسعار المواد الضرورية للمواطن، البطالة وندرة فرص العمل، ازدياد الفقر، تردي الخدمات الصحية والتعليمية، والقروض البنكية التي حولتعشرات الآلاف من الموظفين إلى «رهائن» لدى البنوكوقد انعكس الوضع الاقتصادي على الحالة الاجتماعية، مما خلق توترات ومشكلات تعاني منها آلاف الأسر، خاصة، على الفئة الشبابيةوقد فجرت هذه القضايا وسواها،نقاشاً وجدلاً انتقل لمستويات متقدمة، تعكس حالة النضج السياسي والفكري التي تخيم على الوسط الشبابي، حول برنامج العمل «السياسي/الكفاحي» لتحديد أنجع أشكال التحركات، بهدف الوصول إلى انتفاضة واسعة، من خلالمراجعة نقدية، لأسلوب المقاومة الشعبية السلمية «اللاعنفية»كشكل وحيد للنضال، الذي تتبناه السلطة والفصائل والحركاتجاءت هذه الوقفة النقدية كشرط ضروري لاستلهام الدروس والعِبر من تجربة السنوات الماضية في تبنيهذا الأسلوب، الذي تحول إلى شكل «روتينينمطي/استعراضي» لايمكن البناء على تفرده، كنهج وحيد في الانتفاضة الشاملة.

أمام هذا المشهد، الكامن في تفاصيله، كل العوامل التي تنذر بقرب اندلاع الانتفاضة، التي تختلف قوى الفعل المباشر في توليدها أوقمعها، على تلمس إرهاصاتها الراهنةشرائح واسعة في المجتمع، غالبيتها خارج الانتماءالفصائلي، ترى في تصعيد الاحتجاجات المكانية/الموسمية لتصل لمستوى الانتفاضة الشاملة، الرد الوحيد على الاحتلال، وعلى وظيفة السلطة، كإدارة، وعلى دورها الأمني، في كبح وقمع الاحتجاجات، وهذا ماتجلى أثناء التضامنمع الأسرى المضربين، وفي مواجهات الرد على استشهاد البطل «عرفات جرادات». وقد كشفت صحيفة معاريف هذا الدور الأمني في دور السلطة في التعامل مع المواجهات الأخيرة «هناك تعاون بين الجيش وأجهزة الأمنالفلسطينية...عندما تفشل معالجة الإضطرابات بأيدي الفلسطينيين، تنتقل المهمة إلى الجيش وحرس الحدود». بدوره، تحدث «قدورة فارس»مدير نادي الأسير عن هذا التعاون» سعى الجانب الفلسطيني للتنسيق مع الشاباك«الإسرائيلي» لتطويق المواجهات ولكن دون رد، وسط تواري السياسيين «الإسرائيليين» في مرحلة تشكيل الإئتلاف الحكومي». لم تكن وحدها طلقات الرصاص، والمياه الكيمياوية العادمة والاعتقالات هي أساليب المواجهة معالمتظاهرين الغاضبينإذ لجأت حكومة العدولتقديم «رشوة»، فقد أفرجت عن أموال الضرائب المحجوزة عن شهر يناير / كانون الثاني، وأرسلته للسلطة، على أمل أن يكون له أمر إيجابي...حتى لولم يؤد ذلك لتلقي جميع الموظفينلرواتبهم، لأن هناك _ كما يقول أحد ضباط جيش العدوعلاقة بين استقرار السلطة وقدرة أجهزتها الأمنية على تأدية دورها في ضبط الأوضاع.  مابين الرشوة المالية، ودعوات بعض الصهاينة من إعلاميين وسياسيين لإطلاقبعض الأسرى، يراقب جيل الشباب، بحذر ويقظة، الأدوار المتبادلة، لأنه يعرف بحكم التجربة والأهداف، أن كلا المعسكرين، لايمتان له بصلة.

إن الحديث عن انتفاضة جديدة، يعني بالتأكيد، تبلور لوحة سياسية/تنظيمية تتشكل من خلال قوى شبابية صاعدة، برز دورها في الحراك الشعبي خلال السنوات الأخيرةدور يتعاظم، مع اضمحلال وانحسار قوى ومؤسسات، تعيشآخر سنواتأشهر، يأسها وبؤسهاانتفاضة، تقودها شرائح اجتماعية يتجذر وعيها، بفعل الاحتلال، وجرائمه وتوسعه، والسياسات الاستعمارية، الإلحاقيةوعلى الجانب الداخلي، في مواجهة، سلطة أمنية، قمعية، يُعشّش فيمؤسساتها الفساد، وتقوم سياستها الاقتصادية على تعميم الفقر، ومركزة رأس المال الطفيلي في أيدي بعض السماسرة و»مقاولي الباطن» للشركات عابرة الحدود.

 

في ظل هذه الأوضاع، يمكننا القول، إننا أمام المهمات الأولى على جدول الانتفاضة، التي لن تكون رغبات تأجيلها أوتغييبها، بقرار من فصيل أومسؤول، بقدر ماتكون شموليتها، رهن إرادة أبنائها وبناتها، الذي بدؤوا منذ سنوات،كتابة فصل جديد من تاريخ معركتهم التحررية الكبرى.