من دكتاتورية الشركات إلى دكتاتورية الفرد
وسط غفلة كبيرة يعيشها معظم الأمريكيين عن الخطورة الكبيرة التي تحدق بحقوقهم المدنية يعاني آلاف معتقلي الرأي الأمريّن في معسكرات الاعتقال الرهيبة حيث تتوالى شهاداتهم عن القسوة البوليسية المفرطة التي تنتهجها الدولة بحقهم.
تركة بوش
في السابع من آذار عام 2011 قام الرئيس أوباما بالتوقيع على المرسوم التنفيذي رقم /13567/ الذي جرى بموجبه تشريع الاعتقالات المفتوحة – إلى أجل غير مسمى – وإجراء محاكمات للمدنيين أمام اللجان العسكرية.
إن هذا المرسوم يخالف بشكل صريح التعديل الخامس من الدستور الأمريكي والذي ينص على أنه.
« لا يجوز حرمان أحد من حياته أو حريته أو ممتلكاته دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة «.
لقد أعطى المسؤولون في إدارة بوش السابقة إذناً مماثلاً بإجراء المحاكمات العسكرية. إن هذا النوع من الأذون يفتقد لأي أساس أو شرعية قانونية من أي نوع، حيث يمكن من خلاله ممارسة التعذيب وتجاهل تدابير الحماية التي أقرها القانون الدولي للأفراد.
ونجح هؤلاء المسؤولون في دفع الرئيس للموافقة على: « سحب الحقوق الأساسية من الجهات أو الأفراد الذين يعتبرون معادين للولايات المتحدة «، أو لأي إنسان يُشك في أنه يشكّل تهديداً للأمن القومي لأي سببٍ كان أو حتى بلا سبب.
لقد مكّن هذا الإذن المسؤولين من إنكار حق المتهمين بإجراء محاكمات عاجلة، إضافة إلى أنه شرّع انتزاع الاعترافات والأدلة تحت التعذيب، وسمح بامتلاك أدلة ومعطيات سرية دون اطلاع محامي المتهم عليها. كل هذا يعد استهانةً فاضحة بكرامة الإنسان، واستهزاءً بالغاً بمبادئ القانون الأساسية.
الرواية الرسمية
يدعي أوباما أن الاعتقالات المفتوحة واللجان القضائية العسكرية : « توسع قدرتنا على تقديم الإرهابيين للعدالة وتوفير الرقابة والحماية التي نحتاجها لتأدية عملنا كما أنها تضمن معاملة إنسانية للمحتجزين « ! وهذا بالطبع ادّعاء كاذب آخر كالادعاءات التي عوّدنا عليها أوباما.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث قام أوباما في 31 ديسمبر 2011 بتوقيع « قانون الدفاع الوطني « الذي يعرف اختصاراً بـ(NDAA). لقد أباح هذا القانون اعتقال المواطنين الأمريكيين داخل الولايات المتحدة وخارجها من الجيش الأميركي دون توجيه أية تهمةٍ إليهم واحتجازهم – ولو كان هذا الاحتجاز قائماً على مجرد الشك بتورطهم بشيء ما – دون محاكمة. لقد بات الأمر واضحاً، فقد قالت الديكتاتورية الرئاسية كلمتها : « لم يعد أحد بمأمنٍ بعد الآن «.
النزوع للدكتاتورية
باستطاعة الرئيس الأمريكي الآن – تبعاً لهذا القانون – أن يأمر باعتقال أيّ كان وسجنه مدى الحياة دون توجيه تهمة واحدة إليه، فقد تغلّب استغلال السلطة على جميع القوانين والأنظمة التي تضمن حقوق الأفراد بحيث أصبح القضاء الأميركي وأحكامه ومبادئه في خبر كان.
نعم يا سادتي، فهذه هي أمريكا الجديدة وهذا قانونها الذي انتهك كل أنواع القوانين الدستورية والدولية، فبفضله تقف بلاد العم سام اليوم قاب قوسين أو أدنى من استكمال تحولها إلى دولةٍ قمعيةٍ بامتياز.
وأذكر هنا موقف نقابة المحامين الأمريكيين من هذا القانون فقد وصفت مفاعيله بقولها.
« لقد جعل هذا القانون من جميع المواطنين الأمريكيين - وبلا استثناء – أهدافاً مشروعة..
لم يعد من المبالغة في شيء القول بأنه بإمكاننا اليوم أن نودع حقوقنا المدنية التي كانت تسمى يوماً «الحقوق المصانة» كحق التظاهر ضد الظلم الذي تمارسه الإمبريالية كل يوم أو للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والوقوف بوجه جشع شركات النهب الكبرى أو محاربة الفساد الحكومي المستشري.
لم توُضع كل هذه السدود في وجهنا إلا لسببٍ واحد ألا وهو : حماية طبقة كبار الأثرياء (النخبة) من المحاسبة الشعبية.
ولن يكتفوا بهذا، بل إنهم لن يتوانوا عن منع حرية الرأي والتجمّع والدين أيضاً إذا اقتضى الأمر، فمن الواضح أنهم لن يسمحوا بأي شيء يمكن أن يمس أو يهدّد حق أمريكا المقدس بالقتل والتدمير والنهب دون عقاب.
تفاصيل القانون
بالعودة إلى هذا القانون، فقد اقترحت السيناتورة دايان فاينشتاين إجراء تعديلٍ عليه بهدف الحد من حالات الاعتقال التي تتم على يد الجيش. وينص تعديلها على استثناء - ولو شكلياً – كل من المواطنين الأمريكيين إضافةً إلى المقيمين الدائمين على الأراضي الأمريكية فقط من التعرض لهذا النوع من الاعتقال.
إلا أنها زادت الطين بلةً بهذا التعديل، حيث يمكن وفقاً لهذا التعديل اعتقال – بشكل مفتوح – الطلاب غير المقيمين والذين لا يمتلكون سوى تأشيرات دخولهم (الفيزا) إضافة إلى المهاجرين والسوّاح.
كما تم - ووفقاً لهذا التعديل أيضاً - حرمان من يجري اتهامه من حقوقه أمام المحكمة.
قرر المشرّعون في التاسع عشر من ديسمبر إلغاء التعديل الذي اقترحته فاينشتاين واستبدلوه بفقرةٍ - لا تخلو من التلاعب اللغوي المخادع - تقول.
« لا ينبغي تفسير قانون الدفاع الوطني بوصفه إنكاراً لحق (الإحضار للمحكمة) أو أية حقوق دستورية أخرى يتمتّع بها الأفراد داخل حدود الولايات المتحدة أمام المحاكم التي تعتمد المادة الثالثة من الدستور في إصدار أحكامها ».
هذا وقد قامت القاضية الفيدرالية كاثرين فوريست في الثاني عشر من سبتمبر بإيقاف العمل بقانون الاعتقال المفتوح، ورفضت تطبيقه واصفةً إياه بالـ : « المفتقر للشكل الدستوري والمنتهِك للحقوق التي ضمنها التعديل الأول من الدستور، إضافةً لخلوّه من البنية القانونية وتدابير الحماية التي لا يمكن إقامة محاكمة عادلة دونها ».
وقد أثار هذا القرار حفيظة مسؤولي الإدارة الأمريكية فشنوا ضدها حملةً كبيرةً مدّعين أنها خالفت القِسم /1021/ من قانون الدفاع الوطني.
وأضافوا أنها بعملها هذا تهدد الأمن القومي والمصلحة العامة بشكل خطير عن طريق إضافة أعباء كبيرة وإحداث إرباك بالغ في سير العمليات العسكرية في الخارج خلال أوقات الحروب.
مؤكدين أنها قامت بمخالفة صريحة للتفسير الذي وضعته السلطة العسكرية لكيفية الاعتقال خصوصاً وأن هذا التفسير سبق ووافقت عليه جميع فروع الحكومة الثلاثة.
ردود الفعل
في الثاني عشر من ديسمبر، قدم كل من المحاميين كارل ماير، و بروس إيرا، نداءً طارئاً للقاضية روث جينسبرغ من محكمة العدل العليا بخصوص الخطر الشديد الذي يتهدّد الحقوق الدستورية مطالبين بتثبيت الحكم الذي أقرته القاضية كاثرين فوريست.
وهذا هو نص الطلب الذي قدماه.
« إن لم تتراجع المحكمة عن هذا الوقف الذي أجرته المحكمة ضد حكم القاضية كاثرين فوريست، فإن الحقوق الدستورية الأساسية ستبقى عرضةً للانتهاك، أما عمليات الاعتقال العسكرية إن جرت فإنها ستتضمن – وفق قانون أوباما – عمليات استئناف قد تستغرق شهوراً وربما سنوات والمعتقل يبقى معتقلاً حتى انتهاء هذه الإجراءات الطويلة الأمد».
مؤكدين أن : « الأمريكيين مهددون اليوم بشكل فعلي بفقدان حقوقهم المنصوص عليها في التعديل الأول من الدستور الأميركي كالمساواة في حماية الحريات لجميع المواطنين دون استثناء ».
عبر عملية استقراء غير معقدة لكل الوقائع السابقة، يصبح من الواضح لدينا أن الاستبداد في الولايات المتحدة يسير في طريقه نحو الاكتمال التي سيتوج بولادة الدولة القمعية بشكلها النهائي.
وهذه الولادة – بكل أسف – قد تحدث في أي لحظة.