ولكن هل يعتبر التمسك بفلسطين شططا؟
يرفض كثير من رجالات السلطة الفلسطينية ومؤيدوها، أي انتقاد لخطوة التوجه إلى الأمم المتحدة، وربما يوجهون تهمة الخيانة والتآمر على المشروع الوطني، لمن ينبه للمخاطر التي تنطوي عليها خطوة السلطة، بتحصيل اعتراف من المنظمة الدولية، بدولة فلسطينية في حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
أدى هذا الموقف إلى إحجام الكثيرين عن قول رأيهم بصراحة، ودفع فصائل فلسطينية كبرى إلى التزام الصمت، وهي تخشى من أن يقول قائل: كيف تكونون مع دولة الاحتلال، والولايات المتحدة في رفض خطوة طلب الاعتراف بالدولة؟
ثمة ما هو مدرك عن المكانة التي يحتلها بناء الدولة الوطنية في الوعي الفلسطيني عامة، لدى النخب والأفراد. وقد جرى منذ عام 1974 على الأقل، إحداث ربط محكم بين تحقيق أهداف الكفاح الفلسطيني، وبين قيام الدولة، لتبدو الأخيرة المآل النهائي لمسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني.
وكي يبدو المآل المنشود قابلا على للتحقق، فقد جرى الحديث عن الدولة بشكل ملتبس بداية، ثم جرى تعيينها بأنها كيان للفلسطينيين يقوم على الأراضي المحتلة عام 1967، بعد تحريرها بداية، ثم نتيجة للمفاوضات في مرحلة لاحقة. واحتل تعبير «برنامج الإجماع الوطني»، مكانة كبيرة في الخطاب الفلسطيني، وصار معناه إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، دون الخوض في كيفية بناء هذا الإجماع، وعما إذا كان حقيقيا أم لا، وهو يتصل بالتنازل المعلن عن ثلاثة أرباع فلسطين ويزيد؟ وفي حدود ما نعرف، لم يسجل التاريخ إجماعاً لشعب على التضحية بأكثر من ثلاثة أرباع أرضه، وبذاكرته أيضاً، كي يقدم برنامجاً سياسياً مقبولاً، وأكثر من ذلك يسميه برنامج الإجماع الوطني.
في كل حال، جرى تصدير التمسك بفلسطين كل فلسطين على أنه نوع من العدمية السياسية، والجمود وعدم إدراك تبدل العالم وموازين القوى إلخ. لم ينتج هذا النقاش، ويأخذ مكانه بعد اتفاق اوسلو. هو يعود في مرحلة الثورة المعاصرة، إلى ما قبل العام 1974. وجرت نقاشات حول الدولة الواحدة، نهاية الستينيات من القرن الماضي. وحول الدولة والسلطة الوطنية المقاتلة، ثم غير المقاتلة، إلى آخر تلك التسميات والوقائع قبل عقد اتفاق أوسلو.
المثير للانتباه في الوضع الفلسطيني، هو تناقص أعداد العدميين، دون أن ينتج الواقعيون شيئاً، وأكثر من ذلك، فقد تحولت الواقعية إلى وقوعية، وجرت كوارث على الشعب الفلسطيني. على سبيل المثال: شكلت قوى فلسطينية رافضة للبرنامج المرحلي عام 1974، جبهة القوى الرافضة للحلول الاستسلامية، أو ما عرف اختصارا باسم «جبهة الرفض». وأعلنت أنها لا تقبل بدولة على جزء من فلسطين، ولا بالتفاوض مع الاحتلال في مؤتمر دولي أو سواه.. إلى آخر ما هو معروف من خطابها. بعد سنوات حلت جبهة الرفض، وصارت القوى الأساسية المكونة لها جزءا من «برنامج الإجماع الوطني». هل أضاف هؤلاء قوة للبرنامج؟ لست أدري. ولكن ما نعرفه، أن «برنامج الإجماع الوطني»، ظل يسجل تراجعاً في مطالباته، للتكيف مع ما هو مقبول عالمياً، دون أن يحقق شيئاً.
وعملياً جرى توقيع اتفاق أوسلو، دون استشارة كبيرة أو صغيرة، لأطراف برنامج الإجماع الذين قالوا فيه الكثير ثم بدأت مرحلة التكيف مع نتائجه، وعاد الحديث عن الإجماع، باعتبار أن أوسلو سوف ينتج دولة، فأتونا بأقل من حكم ذاتي.
ومنذ سنوات صار الحديث عن تحرير كامل التراب الفلسطيني، محسوباً على خانة الجنون والشطط وعدم التكيف، والعجز عن إدراك موازين القوى. وأصدر الفلسطينيون بمختلف قواهم ما أسمي «وثيقة الوفاق الوطني». وهي تقول بدولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام سبعة وستين. وافق الجميع تقريباً على هذه الوثيقة (تحفظت عليها حركة الجهاد الإسلامي)، وصارت مكونا بالنسخة الأخيرة لما يسمى برنامج الإجماع، الذي اعتبره البعض الحد الأدنى المقبول، واعتبره البعض الآخر سقف الطموحات والتطلعات الوطنية. هل أضيفت قوة كبيرة لبرنامج الإجماع؟ لا أدري. ولكن ما نعرفه أيضاً، أن الطلبات التي قدمت للتكيف ولتحقيق القبول بعد ذلك كادت تصل حد المطالبة بالخروج من الجلد.
والآن: سألت أحد القياديين الفلسطينيين لماذا لا يكون طلب الاعتراف على أساس القرار181، وهكذا بدل 18 بالمائة من فلسطين، نخوض المعركة على 46 في المائة منها؟ نظر إلي نظرة المشفق على جاهل. ثم قال: يا أخي يجب أن نطلب شيئاً معقولاً. إذا طرحنا القرار181، فهذه وصفة للفشل، وستشن علينا معركة دولية. متسلحاً بالجهل ذاته الذي أشفق علي منه، قلت له سائلاً أيضاً: ولكن القرار181 قرار دولي لنطالبهم بتطبيق قراراتهم. هذه المرة اكتفى بالابتسامة الساخرة، وأشاح بوجهه عني.
حسناً، سوف يكون هناك نقاش آخر، بعد رؤية نتائج تقديم الطلب والتصويت. حتى ذلك الحين، يحق لمن يريد القول إنه مع فلسطين كل فلسطين، ومع المقاومة من أجل تحريرها، ومع رفض الإقرار بشرعية احتلال أي جزء منها، يحق لهؤلاء التعبير عن رأيهم، دون أن يوصفوا بالتآمر، أو الخيانة. هل نتحدث عن معايير مقلوبة؟. ربما.