نهاية زمن النكبة
مضت أربع وستون سنة على الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948. اليوم الذي شهد إعلان الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وترسيم النكبة الفلسطينية، المتمثلة باغتصاب ثلاثة أرباع فلسطين، واقتلاع نحو مليون مواطن فلسطيني من دورهم وبيوتهم وبياراتهم، وطردهم إلى مخيمات البؤس والحرمان.
وعلى مدى تلك العقود واجه الفلسطينيون حربا على وجودهم. لقد كان الاقتلاع ترجمة للمقولة الصهيونية عن الطرد والنفي. نفي الآخر من الوجود، وليس مجرد القيام بعملية نقل من مكان إلى مكان، على ما يوحي التعبير المخادع المسمى بالترانسفير. أو «عمليات نقل السكان».
القتل والمجازر، هما الوسيلتان اللتان اعتمدتا لتنفيذ الاقتلاع. ولم يكن الخداع غائبا عن المشهد، عندما وجد الصهاينة شركاء لهم في المسعى لتقويض الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين.
الحرب على الوجود تواصلت، وتكررت مشاهد النكبة التي تعرضها التلفزيونات اليوم، أكثر من مرة. غالبية المجازر التي قام بها الصهاينة وقعت بعد عام النكبة، وأعداد الذين اقتلعوا من الأرض بعد النكبة، لا يقل عن عدد الذين اقتلعوا بسببها، أو في التمهيد لها. هذه الحرب أرادت إنهاء الوجود الفلسطيني على الأرض، كي تحل بديلا عنه المستوطنين المستجلبين من كل أصقاع العالم. ولكي تعيد تشكيل رواية زائفة للتاريخ والواقع. بهذا المعنى، كانت الحرب على الذاكرة جزءا أساسيا من العدوان المتواصل. وفي هذا السياق جرى وضع المعادلة الظالمة والمزيفة عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وهي كانت نوعا من «التسويغ الفلسفي» للمجزرة المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، فلتحقيق الجزء الأول منها كان لا بد من تفريغ الأرض، بينما تتكفل عملية استيراد الصهاينة إلى أرض فلسطين بالجزء الثاني.
ومثل كل عملية تزييف تستهدف التاريخ، تصبح مواصلة التزود بالعناصر المساعدة على إكمالها مطلوبة بشكل دائم. وهكذا فقد اتهم الفلسطينيون الذين اقتلعوا من أرضهم بالحديد والنار، بأنهم باعوا أراضيهم وقبضوا ثمنها! لم يجب أحد ممن تبنوا هذه الرواية وتابعوا تسويقها والعمل عليها، على سؤال مفاده: لماذا يبيع الفلسطيني أرضه كي يسكن خيمة، تعبث بها الريح؟
لم تكن المشكلة في إيجاد إجابة على سؤال عبثي من نقطة البدء. لكنها كمنت حقا في وجود أولئك الباحثين عن طرق لتطهير ضمائرهم. ولم يكن هناك ما هو أسهل من توجيه اللوم إلى الضحية، ما دامت القدرة على مواجهة الجلاد غير موجودة، أو أن الإرادة اللازمة لتلك المواجهة غائبة أصلا.
استمر التسويق لكل أشكال الزيف، حتى أن الضحية اتهمت بالعناد، وبعدم القدرة على إدراك ووعي موازين القوى. وهكذا اتهم الفلسطينيون الذين رفضوا القبول بالتقسيم، بإضاعة «فرصة تاريخية»، وحتى هذه اللحظة يتهم الفلسطيني المتمسك بأرضه وبحقوقه وبحقائق التاريخ، بالعدمية، وبغياب القدرة على وعي ما يفرضه الواقع من موازين قوى على الأرض. وذلك على الرغم من أن «الواقعيين» قد أدلوا بدلائهم كلها، ولم يحصدوا سوى الخيبات، وسلال الوهم.
لقد كانت الحرب على الوجود بكل أشكالها، أشرس ما واجهه الشعب الفلسطيني على مدى العقود المنصرمة، والحق أنه بعد كل تلك الجولات من الحرب الطويلة والمستمرة، قد أفشل ما خطط له العدو. صحيح أن الشعب الفلسطيني ومعه قوى المقاومة العربية كلها، لم تنجح في تسجيل انتصار حاسم ونهائي على العدو الغاصب لفلسطين، ولكنهم نجحوا في تقييد الآلة العدوانية، واجبروا «الدولة» التي كانت تتحدث عن «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل، على العيش خلف الجدران، وعلى التصريح بمعاناة « القلق الوجودي «. ولعلها مفارقة تاريخية ملفتة، أن «الدولة المصطنعة» التي قامت بأكبر ثاني عملية اقتلاع ونفي وإحلال في التاريخ، بعد تلك التي قام بها المهاجرون البيض إلى الولايات المتحدة، بحق الشعب الأمريكي الأصلاني، من مواطني القارة الأمريكية، تبدو مشغولة، وأساسا اليوم، بما تسميه الخطر الديمغرافي على وجودها، والذي يشكله، الفلسطينيون بواسطة التكاثر الطبيعي.
الفلسطينيون هم الحقيقة الوحيدة اليوم على أرضهم، سواء تلك التي احتلت قبل أربعة وستين عاما، أم تلك التي احتلت عام سبعة وستين. هم الحقيقة رغم الآلة العسكرية الضخمة وقطعان المستوطنين، وكل وسائط القتل والعدوان والنفي. هم الحقيقة حين يكون إضراب مئات منهم عن الطعام «تهديدا» لكيان الاغتصاب، وحين تكون حجارة الأطفال خطرا على»أمن الدولة» وبضعة صواريخ بدائية الصنع تهديدا إستراتيجيا.
لقد دأب كثيرون على التحذير من الاستخفاف بقوة العدو، لأن ما ينتج عن ذلك هو توهم بالقدرة على سهولة تقويضه والوهم خطير في كل الحالات. لكن من الهام أيضا التحذير من تصوير العدو على أنه قوة مطلقة لا سبيل إلى هزيمته، لأن هذا النوع من الوهم هو خطير جدا أيضا، خصوصا وقد أكدت التجارب أن هزيمته أكثر من ممكنة.
في السنة الماضية فقط ارتعدت فرائص»الدولة» جراء محاولة شبان اقتحام الحدود، وإنهاء حالة النكبة والتشرد. لن يطول الوقت، حتى تواجه تلك «الدولة»، ما هو أكثر من «الارتجاف». بعد أربع وستين سنة، لا يزال الفلسطينيون على أرضهم حقيقة، ويصنعون نهاية الزيف والباطل. درس التاريخ يبين أنه لا يمكن صناعة تاريخ من الزيف.