الدماء في أوروبا: استثمار فاشي خاسر..!
أعادت العمليات الإرهابية التي شهدتها مدينة باريس، يوم الجمعة 13/11/2015، إلى الأذهان ذلك الكم الهائل من التحليلات القاصرة التي أعقبت حادثة «شارلي إيبيدو» في كانون الثاني من هذا العام. حيث تغدو العمليات الإرهابية، من منظور تلك التحليلات، ظواهر متخلفة ومنفلتة من أي ضوابط تحكم شكلها ومضمونها وتوقيتها.
ليس من قبيل المبالغة إرجاع المعارك والأزمات المشتعلة على طول الخط الفاصل بين أوروبا وآسيا، إلى المعركة الأساس التي تخوضها قوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي، بهدف منع التكامل في منطقة أوراسيا، التي يشكل ترابط قوى الإنتاج فيها مقتلاً للمشروع الفاشي المحمول على أكتاف السياسات الأمريكية بشكل خاص.
حدث للتوظيف الداخلي
في إطار هذا التوجه الاستراتيجي، لا تكل المراكز الفاشية في العالم عن محاولاتها الرامية إلى إبقاء أوروبا بعيدة عن التحكم في زمام خياراتها الاستراتيجية، والمقصود بشكل خاص هو خيار «التوجه شرقاً» وتطوير العلاقات مع روسيا، كخطوة في طريق التكامل الأوراسي. ولمنع ذلك، نرى ضغطاً فاشياً واسع النطاق على أوروبا التي- وإن كانت لا تزال عالقة في براثن النظام الدولي القديم القائم على الأحادية القطبية- إلا إنها محكومة في نهاية المطاف بالانعطاف نحو القطب الصاعد، والتعامل وفق الموازين الدولية الجديدة.
وفي سياق الضغط على أوروبا، تواصل الفاشية عملها الحثيث لتمتين مواقع اليمين الفعلي على الساحة الأوروبية، ذلك اليمين المرتبط عضوياً بمصالح رأس المال المالي العالمي. ومن أدوات هذا الضغط، تبرز العمليات الإرهابية كواحدة من وسائل شد العصب الأوروبي، بما يفضي إلى تمهيد الأرضية الأهلية الأوروبية لتمرير سياسات المركز الفاشي، بما يجعل أوربا- حسب رؤية المخططين والمستفيدين- بين فكي كماشة الفاشية «الوافدة»- ذات الأسباب والامتدادات الداخلية، والعنصرية اليمينية «الداخلية»، المصورة على أنها ردة فعل دفاعية، ضمن المحاولات المستمرة لصرف أنظار الأوربيين عن الصراع الاجتماعي الأساسي مع الرأسمالية كمنظومة.
من هذا المنطلق، دفعت القوى الفاشية، وأدواتها في الداخل الأوروبي، إلى توظيف العملية الإرهابية الأخيرة في مدينة باريس للتثمير السياسي داخل حدود القارة الأوروبية، بهدف تمكين سياسة اليمين العنصري أولاً. ففي النتائج الأولية للعملية، حاول الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إقناع برلمان بلاده بضرورة «تعديل الدستور بما يسمح بالتحرك السريع لمواجهة الأوضاع الاستثنائية». كما جرى في اللحظات الأولى بعد العملية، توظيف الحدث في قضية اللاجئين داخل أوروبا، عبر التلويح بهوية المنفذين المفترضين للعملية.
المعركة خاسرة استراتيجياً
يتطلب الوصول إلى استنتاجات دقيقة حول نتائج عملية باريس في داخل أوروبا بحثاً طويلاً ومتواصلاً. إلا أنه، ومهما كانت تلك النتائج، فإنها لا تزال ضيقة مقارنة بالنتائج الأكثر عمومية التي خلصت إليها السياسة الخارجية الفرنسية مثالاً. فبعد انقضاء الساعات الأولى على العملية، شهد العالم «انعطافاً» فرنسياً أمسك بـ«عصا الإنقاذ والتلقف الروسية»، تمثل في مشاركة أكثر جدية للقوات الفرنسية في الحرب ضد تنظيم «داعش»، ليلحق بذلك تنسيقاً روسياً- فرنسياً هو الأول من نوعه حول الضربات الجوية التي يتعرض لها التنظيم اليوم في سورية.
من هذا نصل إلى أن هوامش المناورة الفاشية داخل بعض الأقاليم والقارات، والتعويل على تحييد انعكاساتها وتوظيفاتها في إطار التوازن الدولي الجديد وصراع الأقطاب المتعددة، باتت ضيقة جداً، إن لم تكن مستحيلة اليوم. فالترابط بين الداخلي والخارجي، في ظل الميزان الدولي الحالي، بات ترابطاً عميقاً تكاد تنمحي فيه الحدود الفاصلة بين الاثنين.
فخلف الدماء التي أريقت في باريس- وقبلها في مناطق عديدة شرقاً وغرباً- ينهض عالم جديد متعدد الأقطاب، على أنقاض الأحادية القطبية التي لم تزل تعاند موتها المحتم على حساب البشرية وأمانها.