الغضب الفلسطيني.. واستثمار اللحظة التاريخية
في أحد أهم أوجهها، تعيد الهبة الشعبية- كما درجت وسائل الإعلام على تسميتها- التي تشهدها الساحة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه التأكيد على الاتجاه الثابت لبوصلة الشعب الفلسطيني: خيار المقاومة، كخيار موضوعي ووحيد في وجه العدو الصهيوني، وفي زمن تكثر فيه محاولات الالتفاف على هذه الثوابت، ومن أكثر من جهة.
خلافاً للتحليلات التبسيطية التي تحاول تجميل طروحاتها عبر الانطلاق من الجزئيات لتحليل الوضع في فلسطين المحتلة، فإن الوصول إلى تفسير صحيح للأحداث لا بد أن ينطلق من فهم عميق للمتغيرات على الساحة الدولية، حيث تشير التوازنات إلى تراجع بات ملموساً لدى القطب الإمبريالي الأمريكي وحلفائه وأدواته وقواعده المتقدمة في العالم، في مقابل انفتاح الأفق أمام القوى الدولية الصاعدة، روسيا والصين على وجه الخصوص، التي تفتح المجال للاستناد إلى رؤى جديدة في الاستفادة من القانون الدولي، وحتى على الأرض في تغيير الموازين لصالح الشعب الفلسطيني. ما يؤكد على أن الهبة الشعبية التي تجري اليوم في فلسطين المحتلة، إنما تجري في وضع دولي يسمح بتحقيق مكتسبات تاريخية للشعب الفلسطيني حان وقتها وينبغي تثبيتها في المجالات كافة.
كسر العوائق على طريق المكتسبات
في الواقع، إن ضمان استمرارية الحركة الشعبية الحالية، وضمان تثميرها السياسي اللاحق، مرهون بالاستبعاد المبكر للعوائق التي من شأنها أن تقف في طريقها سداً منيعاً لصالح الاحتلال، والمصالح الفئوية الضيقة، بما تحمله من طروحات خبيثة تجهز على حركة الشارع الفلسطيني، تحت غطاء الدفاع عن مصالحه.
في هذا السياق، تكمن أولى الطروحات التي تنبغي عملية مواجهتها في المحاولات المكرورة، لبعض القوى السياسية الفلسطينية، الهادفة إلى ترويض الحركة الشعبية، وعلى وجه الخصوص، طروحات أجهزة السلطة الفلسطينية، التي لا تنفك تجتر «الرجاء والطلب والتمني» على الكيان الصهيوني للعودة إلى طاولة المفاوضات. السلطة ذاتها التي ستلجأ على الأغلب إلى استغلال يائس للحدث الفلسطيني المغاير في جوهره لطروحاتها المساومة، والسير به نحو محاولات الضغط على الاحتلال للعودة إلى طاولة المفاوضات، التي تشكل متنفساً لهذه السلطة وسبباً في استمرارها.
في المقابل، يبرز خطر جدي آخر على الحركة الشعبية الحالية، يتجلى في المحاولات المتوقعة لدى بعض القوى السياسية الفلسطينية باتجاه تقزيم الحدث، والإجهاز عليه عبر استثماره لتثبيت الانقسام بين الفصائل الفلسطينية، وإطالة أمد المماحكات التي دفع ثمنها الشعب الفلسطيني، تسويفاً ومماطلة، في بحث الملفات الوطنية الجامعة. وسواء جرى ذلك عبر لجوء السلطة الفلسطينية إلى تثبيت «خيار المفاوضات»، أو عبر قيام خصومها بقصر الحدث الفلسطيني كورقة ضاغطة على السلطة، فإن ذلك يندرج في سياق ترسيخ الانقسام، وتضييع الفرصة الذهبية التي تتيحها التوازنات الدولية الجديدة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى ضرورة التصدي لمحاولات البعض جر الأمور نحو الفصل بين ساحات الصراع مع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ما أتاح للعدو سابقاً الاستفراد في هذه الساحات كل على حدة، وفتح له هوامش واسعة للمناورة.
التثمير والإنتاج: التنظيم والتأطير سبيلاً
بداية يجب التأكيد على أن هذه الحركة التي تجري في فلسطين المحتلة اليوم ليست منقطعة عن الحراكات الماضية بأشكالها المختلفة، ولا الحراكات التي طالت الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، لا زمنياً ولا جغرافياً. ما يدفع للاستنتاج بضرورة الاستناد إلى هذه العناصر كلها بهدف دفع هذه الحركة إلى مستوى أعلى من التنظيم وتوحيد صفوف الشعب المقاوم.
والطريق لإنجاز مستوى أولي من التنظيم والتوحيد، لا بد له من تحقيق مستوى فاعل من التنسيق بين الجبهات الثلاث داخل فلسطين: الضفة، وغزة، والأراضي المحتلة عام 48، حيث لا مناص من التكامل في الساحات والأساليب النضالية، وخصوصاً بين جبهتي الضفة وغزة، مع فتح الطريق لخيار المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وإعادة بناء هياكلها التي دمرها الاحتلال وسلطة أوسلو، وهي حالة ليست بالطارئة، إنما تاريخية، ومن الممكن استنهاضها، حيث لا يزال يذكر العالم معركة مخيم جنين عام 2002، والنموذج المهم للوحدة الوطنية الذي قدمته هذه المعركة. هذا فضلاً عما تتمتع به الضفة الغربية من مساحة جغرافية قابلة للضغط عسكرياً وبقوة على كيان العدو. وهنا ينبغي قطع الطريق على أية محاولة للفصل بين الضفة وغزة كوحدة مقاومة من الناحية الاستراتيجية، لا بل العمل على صياغة دقيقة ذات بعد استراتيجي لأدوار كل منها، أما من الناحية التكتيكية، فينبغي رسم الأدوار بشكل دقيق منعاً لاستغلال الكيان الصهيوني إحدى الساحتين لضرب الأخرى.
بالتوازي مع ذلك، يجب فهم خصوصية أراضي الـ48، التي ينبغي التنسيق معها بشكل فاعل، في إطار التكامل الضروري جداً بين الجبهات الثلاث لإرباك العدو الصهيوني، وإغلاق هوامش الحركة في وجهه، مع الأخذ بعين الاعتبار الحساسية العالية التي يجب التعاطي فيها مع أراضي الـ48، نظراً لمستوى التحكم الصهيوني العالي فيها، ما قد يسمح له بدفع مجريات الأمور باتجاهات مغايرة ومعيقة للمشروع الوطني الفلسطيني، اعتماداً على أدواته الفاعلة هناك، ناهيك عن تعقيدات المناورة في هذه الساحة في ظل القانون الدولي الحالي، ولا يعني ذلك طبعاً إسقاط خيارات المقاومة الشعبية هناك.
يشكل التنسيق بين الساحات الفلسطينية الثلاث عملياً، المدخل الواسع لتنظيم الحركة الشعبية، بالأطر كافة القادرة على أن تلعب دوراً مقاوماً، فصائلاً وهياكلاً ومؤسسات وطنية فلسطينية تاريخية جرى تعطيلها، كواحدة من نتائج اتفاق «أوسلو» المشؤوم، وكذلك الفصائل ذات الإرث الوطني التاريخي، والتي تضررت بشكل كبير من الاتفاق سيء الذكر، مما يفتح الباب أمامها للخروج من مآزقها، التي أجبرتها سابقاً على الالتزام بمشاريع غير مقاومة، أعاقت الوحدة الوطنية على أساس موضوعي وحيد هو برنامج المقاومة.
أكثر من قرارات دولية
من الطبيعي والمتوقع أن تصطدم عملية التنظيم هذه بشكل مباشر مع الأدوات التاريخية للاحتلال في السيطرة على الضفة، وأبرزها سلطة «أوسلو»، ورعاتها الدوليين أساس المشكلة، التي لم تنفك تعبر عن نفسها كحائط صد في وجه الشعب الفلسطيني، سرعان ما سيستكمل انهياره الذي بدأ اليوم بحركة الجماهير. وفي المقابل، ستصطدم هذه العملية بالطروحات الأخيرة التي تحدثت عن تمرير «التسويات» في قطاع غزة، والتي لم تجد من ينفيها بشكل جازم حتى الآن، وصولاً إلى بعض القوى المؤهلة للعب دور معيق للمشروع المقاوم في أراضي الـ48، سواء بحرفه عن مساره أو منعه.
من الصحيح أن عملية التنظيم، ودعم الحركة الشعبية، تحتاج إلى دعم إقليمي قد يصعب تأمينه آنياً، تحديداً في ظل ظروف الضفة المعقدة جغرافياً وأمنياً، وفي ظل الوضع السوري الحالي، وأوضاع مصر المعقدة، لكن بأخذ الأمور بحركتها، واستشراف آفاق حلحلة الأوضاع في سورية، وتقدم إيران بعد الاتفاق على ملفها النووي، وتوجهات مصر الجديدة دولياً، التي ستفتح عاجلاً أم آجلاً إلى المعركة الوطنية في مصر وعلاقتها بدورها الإقليمي وخياراتها الاستراتيجية، ينبغي الاستمرار في عملية التنظيم ودفعها سياسياً لتكون عاملاً حاسماً في حسم الخيارات المصرية.
تسمح عملية التأطير والتنظيم هذه، بالإنتقال لمستوى متقدم من عملية التنظيم، ووظيفته، إنتاج قيادة سياسية للمشروع الوطني الفلسطيني المقاوم، قادرة على قيادة نضالات الشعب الفلسطيني في الساحات كافة ، سواء على الأرض في إطار تغيير موازين القوى، ولجم الاحتلال، وفرض أمر واقع جديد عليه بالمقاومة مختلفة الأشكال بما فيها العسكرية، أو عبر الاستفادة من المكاسب الدولية، التي هي حق للشعب الفلسطيني، وباتت ممكنة التثبيت نظراً للتوازن الدولي الجديد الذي يسمح بأكثر من ذلك بكثير..!
إن ما لا يريد البعض الاعتراف به، وكلٌّ وفق خطه السياسي ومصالحه الضيقة، يكمن في أن واقع الصراع الدولي الجديد، وآفاقه المستقبلية، لا تسمح بتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي لهث البعض وراء سرابها طويلاً فقط، بل وكذلك في إعادة النظر بوجود الكيان الصهيوني من أساسه.