تركيا والسعودية: «الأمريكي» ينسحب.. ما العمل؟
في ضوء تراجع الوزن والنفوذ الدوليين للولايات المتحدة وحلفائها، لصالح القوى الصاعدة دولياً، وفي مقدمتها روسيا، تبدو نتائج هذا التراجع ماثلة على خطين متوازيين: أحدهما في انخفاض هيمنة واشنطن على الملفات المشتعلة، وثانيهما في انعكاسات هذا التراجع على الحلفاء التقليديين، وفي مقدمتهم السعودية وتركيا.
بحكم الانتظام النسبي للتراجع الأمريكي في المنطقة, وعطالة الحلفاء الإقليميين في مواكبة هذا التراجع, والعمل بمقتضاه، أحدث الفرق في الانعطاف بين الولايات المتحدة والحلفاء خلخلة ظهرت نتائجها على شكل أزمات متلاحقة أصابت أنظمة هذه الدول, ما يستدعي، في هذه المرحلة الحرجة، البحث جدياً عن مخارج تخفف تكاليف التبعية المطلقة للولايات المتحدة.
أمريكا لا تستثني أحد!
يرى الجزء المتشدد من الإدارة الأمريكية أن الخروج من المنطقة بأقل الخسائر الممكنة, يمر عبر إيجاد أكبر قدر ممكن من التعقيدات الجيوسياسية في المنطقة برمتها قبل الانسحاب منها, بما فيها إدخال الحلفاء (تركيا والسعودية خصوصاً) في خضم أزمات داخلية وحدودية مستمرة, هي بالحد الأدنى أزمات من شأنها أن تؤخر إيجاد توافقات إقليمية خارج الحسابات الأمريكية, وفي الحد الأعلى، إكمال خارطة الحريق المرسومة وصولاً إلى تخوم الأعداء الكبار، روسيا والصين.
في دلالات الرؤى الأمريكية آنفة الذكر، شهدت العاصمة التركية أنقرة السبت الماضي 10/10/2015, تفجيرين إرهابيين وسط حشد لمناصري «حزب الشعوب الديمقراطي», وقع ضحيتهما ما يزيد عن مئة متظاهر، وأشارت على إثرها أجهزة الأمن التركية، ولاحقاً رئيس حكومتها، عن تورط تنظيم «داعش» والتنظيمات المتشددة الأخرى في هذا الهجوم. واللافت، أن هذه العملية جرت على أبواب الانتخابات البرلمانية المقررة في أوائل الشهر القادم, حيث يتوقع ارتفاع نسبي لوزن «الشعوب الديمقراطي» أمام كتلة «العدالة والتنمية», الداعمة لنشاط التنظيمات المتطرفة في سورية والعراق, وهو ما دفع خصوم أردوغان إلى ضبط النفس بعد الحادثة, منعاً لدخول البلاد في حالة عنف تؤجل حسم المعركة الداخلية سياسياً, وبالتالي التوجهات الجديدة لتركيا في المرحلة القادمة.
السعودية: انعطاف أو انفجار
على المقلب الآخر لا تبدو السعودية أحسن حالاً, فبعد تورطها بخمس ملفات أساسية: الأزمة السورية، والنووي الإيراني، وأسعار النفط، و«تدافع» منى، والتدخل العسكري في اليمن تبدو السعودية أمام خيارين: إما انفجار كبير قد ينتهي بالتقسيم، وإما إنجاز «الانعطافة الكبرى» في التوجهات الاستراتيجية.
وهنا يبرز الملف اليمني كعامل ضغط كبير على السعودية، باعتباره يمس بشكل مباشر الوضع الداخلي للمملكة على الصعيدين العسكري والاقتصادي. فعسكرياً، تشير تقارير أمريكية إلى وصول عدد القتلى السعوديين نتيجة العمليات العسكرية إلى 3000 قتيل, عدد كبير منهم قتل نتيجة دخول قوات «أنصار الله» والجيش اليمني إلى مواقع عسكرية ضمن أراضي المملكة، وصل عددها وفق التقارير إلى ما يزيد عن 170 موقع, في الوقت التي بدأت المملكة بسحب مبالغ تراوحت بين 50 إلى 70 مليار دولار من استثماراتها الخارجية خلال الأشهر الستة الماضية لسد عجز الميزانية البالغ 20%.
تركيا والعوائق المؤقتة
لا يغيب عن تركيا والسعودية منحى تبلور موازين القوى الدولية, تحديداً في هذه المرحلة الحرجة التي يضغط فيها الروس على الأمريكيين بعد دخولهم على خط المكافحة الجدية للإرهاب في سورية. والقول هنا بحرج هذه المرحلة، يأتي من ضيق الخيارات الأمريكية في التعامل مع النشاط الروسي الجديد في المنطقة, وبالتالي، فإن انعطافاً قادماً في الموقف الأمريكي سيأخذ بالحسبان منطق الخروج بأقل الخسائر حتى على حساب أقرب المقربين.
الأحداث الأخيرة في تركيا دلالة أولية على نوايا واشنطن في توسيع نطاق التوتر إلى أوسع قدر ممكن في المرحلة الحالية, وعليه، فإن تركيا- بعيداً عن حسابات أردوغان نفسه باعتباره مرتبط بمرحلة الهيمنة الأمريكية الماضية- تقف على مفترق طرق في خياراتها، وضمن آجال زمنية ليست ببعيدة, لتحييد البلاد عن شبح الانهيارات الداخلية, وهو ما يقع على عاتق القوى الشعبية الحية وجهاز الدولة التركي بشكل رئيسي.
يلعب الاتصال الروسي التركي، الذي يرتكز أساساً على التعاون الاقتصادي الواسع في السنوات الأخيرة, دوراً قد يكون حاسماً في هذا الصدد. فبالنظر إلى حجم التبادلات التجارية بين البلدين, تعد تركيا في المرتبة السابعة كشريك اقتصادي لروسيا, كما أن مجلس التعاون الروسي التركي رفيع المستوى المنعقد في أوائل كانون أول من العام الماضي، تطرق إلى إمكانية زيادة حجم التبادل التجاري ليصل إلى 100 مليار دولار, إضافة إلى إعلان وزير الطاقة الروسي عن تخفيض روسيا لأسعار الغاز بنسبة 6%، من الممكن، فيما لو أرادت موسكو، أن ترتفع لاحقاً إلى 15% لبلد تستورد 90% من النفط الخام ومشتقاته، أي أن روسيا تؤمن لتركيا البديل الحقيقي لتحقيق نمو مقبول في الظروف الدولية، والحفاظ على وزنها الإقليمي.
وإلى ذلك الحين، يبقى الافتراق السياسي عائقاً مؤقتاً يحول دون تثبيت البدائل الآمنة لتركيا الدولة. مؤخراً، بدا أردوغان كمن يطلق النار على بلاده، إذ تهدد حكومته بإنهاء عقد الغاز الطبيعي الموقع مع الجانب الروسي, والذي يقدم الغاز لتركيا بأسعار منافسة وكلف أقل مما يمكن الحصول عليه في الأسواق الأخرى، وهو ما يوضع برسم الدولة التركية في خياراتها اللاحقة مع استمرار أردوغان في دفع البلاد نحو دوامات التراجع الغربي.
الامتحانات الجدية
رغم الاختلاف في المواقف السياسية من الملفات المشتعلة، تحافظ موسكو والرياض على خط اتصال دائم بينهما، وهو ما يعكسه الازدياد في اللقاءات المنعقدة بين الجانبين، والتي كان آخرها لقاء بوتين والجبير في سوتشي. ولا يعني ذلك أن السعودية قد خرجت من دائرة التأثر بالسياسات الأمريكية تماماً, إلّا إنها دلالات تشير إلى انعطاف محتمل للسعودية في خياراتها الاستراتيجية، فيما يمثل الحدث السوري، كأحد ملفات الاشتباك الروسي- الأمريكي، امتحاناً جدياً، وعلى الأرجح أخيراً، في مدى قدرة السعودية على التكيف مع المتغيرات الدولية.
لا يمكن مقارنة تركيا من حيث بينة الدولة مع السعودية, رغم تشابه النظامين الحاكمين هنا وهناك في التبعية العالية للولايات المتحدة سياسياً, وعليه، فإن تركيا التي يلعب فيها جهاز الدولة دوراً حاول أردوغان مراراً تصفيته, أقرب إلى تحول مرحلي على الأرجح أن بوابته ستكون حاضرة في الانتخابات النيابية القادمة, بما يحمي البلاد من انهيارات كبرى في ظل الصراع الدولي المحتدم.