جيل التحدي.. يعيد تصويب البوصلة وتثوير الوعي
تدخل الهبة الشعبية الفلسطينية أسبوعها الثالث، وهي الأكثر انتشاراً على امتداد جغرافية فلسطين التاريخية، والأشد صلابة في مواجهة القتلة، سواء، كانوا بلباسهم العسكري أو المدني، والأبهى، في تحرك الآلاف تحت ظلال العلم الفلسطيني، الواحد والموَحد، في تغييب واستبعاد للأعلام الفئوية والفصائلية.
إذا كانت موجات المواطنين المتتالية، في الشوارع والميادين بكتلتهم الأبرز من الشباب والشابات، متفاوتة الحجم خلال النشاطات الشعبية، ما بين الاحتكاك والصدام المباشر مع حواجز الغزاة المحتلين، ودورياتهم العسكرية/ القمعية المتجهة لاعتقال أحد المقاومين، أو أثناء تشييع جثامين الشهداءـ التي تحتشد داخل الكتلة الجماهيرية، شرائح اجتماعية وفئات عمرية لم يكن حضورها لافتاً في الاحتكاكات المباشرة- فإن اللافت لنظر المراقبين، كانت المشاركة المهمة للمخيمات (شعفاط والدهيشة) ولأحياء القدس المحتلة، بما تجسده من بيئة مجتمعية حاضنة في هذه التحركات.
ترافق مع هذا الاندفاع الشبابي في معظمه، تصاعد في العمليات الفردية البطولية، التي تركزت في القدس المحتلة وبعض مناطق الأراضي المحتلة عام 1948، والتي استخدم خلالها، بجانب السلاح الأبيض والدهس بالسيارات وأدوات قذف الحجارة: المقلاع والنشابة «النقيفة» والمنجنيق، السلاح الفردي في حالات محددة.
شعب واحد، مُوَحَدْ
رغم الاتساع المكاني للمظاهرات والاحتجاجات: القرى والأرياف والمخيمات، فإن عدداً من المدن الكبرى: نابلس ورام الله وجنين وطولكرم وبيت لحم، مازال دورها دون الفعل المطلوب، باستثناء الحضور الكبير من مواطنيها، أثناء تشييع أحد الشهداء داخلها. وأدت مشاركة قطاع غزة بأشكال متعددة من النشاطات والفعاليات، لسقوط عدة شهداء- كان متوقعاً- لوجود القناصين من عسكر المحتل بانتظار وصول المتظاهرين للحواجز والأسلاك الشائكة، وهو ما تطلب إعادة صياغة تكتيكات جديدة للمواجهة تساهم بالتقليل من حجم عدد الشهداء والجرحى.
أما في الوطن المحتل عام 1948، فقد جاءت المظاهرة الحاشدة التي شهدتها مدينة سخنين يوم الأربعاء 14/10/2015، لتؤكد على وحدة المصير التي تربط أبناء الشعب الفلسطيني في مناطق وجوده كلها. فكانت الحشود التي تجمعت تحت العلم الفلسطيني، تعبر بهتافاتها وكلمات المتحدثين، ليس عن رفضها للقوانين العنصرية للحكومة، والممارسات الفاشية لمؤسسات الكيان ولقطاعات واسعة من المستعمرين، اتجاه العرب أصحاب الأرض الأصليين، بل، العمل على إسقاطها ومقاومتهم لكل الإجراءات التي تهدف لاعتبار بعض القوى السياسية «خارجة على القانون» وهو ما رفضه أكثر من متحدث حين قالوا: «وجود الاحتلال في القدس والأقصى وكنيسة القيامة خارج عن القانون، لذلك نقول: الاحتلال هو احتلال بلا شرعية ولا سيادة».
لقد عبّر المحتشدون عن دعمهم الكامل لأهلهم في القدس المحتلة وهم يخوضون معركة الدفاع عن عروبة مدينتهم وعن مقدساتهم الدينية.
سُلطة التخدير والتهدئة
خمسة عشر يوماً، مرت: أكثر من ثلاثين شهيداً وألف وثلاثمائة جريح، وسلطة المقاطعة في رام الله تمارس دور الإطفائي في تبريد المواجهات وتجميدها، ليس في القدس والضفة، بل وفي الداخل المحتل عام 1948، كما صرح أحد قادة حركة «أبناء البلد».
سلطة تنفق أكثر من 70% من ميزانيتها على أجهزة الأمن بمختلف تسمياتها من الحرس الرئاسي(!) إلى المخابرات والأمن الوقائي ..إلخ، ولا تمارس أي دور في حماية شعبها. وهنا، لابد من التذكير بالدور الوطني المشرف لبعض عناصر الأجهزة في الدفاع والاستشهاد دفاعاً عن الشعب أثناء هبة النفق عام 1996.
سلطة مازال رئيسها، يعيد إنتاج العبارات عن اللجوء للمحاكم ومخاطبة الدول من خلال السفراء..! شعب يقدم الشهداء والدماء، وسلطة تقدم رسائل الرجاء للدول، للعمل على «وقف العنف الذي يمارسه المحتل». فما بين حركة الشعب في الشوارع والميادين في مواجهة عساكر الكيان/ الثكنة، وقطعان المستعمرين المستوطنين الفاشيين، وحركة الدبلوماسية في بؤسها الراهن، واجتماعات التنسيق الأمني التي لم تتوقف، بون شاسع، لا تختصره عبارات الفخر بصمود الشعب.
إن ما تضمنته رسالة الشهيد البطل، مهند الحلبي، التي وجهها لرئيس السلطة عقب إلقاء خطابه في هيئة الأمم، ونَشَرَها على شبكة التواصل الاجتماعي قبل تنفيذ عملية قتله للمستعمرين، تعبير عن مواقف واضحة لوعي جيل الشباب: «خطاب جميل سيادة الرئيس، لكننا لا نعترف بالقدس الشرقية والقدس الغربية. نحن نعرف أن القدس واحدة، غير مقسّمة، وأن كل جزء فيها مقدّس. اعذرني سيادة الرئيس، لكن ما يحدث لنساء الأقصى وللأقصى نفسه لن يتوقف بالوسائل السلمية. نحن لم نكبر لكي نُهان».
جيل لم يستطع العدو ولا أصحاب نظرية «المفاوضات حياة»، ولا معسكرات صناعة «الفلسطيني الجديد» أن تحقق «كي وعيه»، بل بالعكس، أعادت كل جرائم الاحتلال ومستوطنيه، وبؤس السلطة ومفرزاتها من تنسيق أمني وسلام اقتصادي كاذب، إنتاج وعي وطني وثوري، لجيل يملأ الشوارع ويشتبك مع المحتل.
اهتزاز في جبهة العدو
أسبوعان، وكيان العدو يعيش أسوأ «كوابيس وجوده»: خوف ورعب واحتماء بالبيوت خوفاً من الموت، طعناً أو دهساً. لم يعد منع التجول هو المفروض على قرانا ومدننا، بل هناك فراغ في شوارع المدن/ المستعمرات الصهيونية في كل الأرض الفلسطينية. تصاعدت العنصرية، وأصبح القتل على اللهجة والشكل (حجاب المرأة، مثالاً) نهجاً واضحاً.
خطاب نتنياهو في الكنيست، وقرارات الحكومة المصغرة «الكابينت» تعبير عن الغرائز المنفلتة للمستعمرين، إلا أن إجراءات تقطيع أحياء القدس العربية، وسحب هويات المواطنين العرب، وهدم البيوت، ونشر عناصر الشرطة والجيش لن توقف السيل المتصاعد.
أسقطت هبة القدس المحتلة نظرية «القدس الموحدة»، وأثبتت أن تلك الكذبة لم يعد يصدقها بعض أصحابها. وكيل وزارة خارجية حكومة العدو الأسبق، أوري سافير، كتب قبل أيام في صحيفة «معاريف» الصهيونية: «إن تفجر عمليات الطعن في أرجاء «إسرائيل» واحتكار الشباب الفلسطيني المقدسي تنفيذها جميعها تقريباً، يدلل على فشل حكومات تل أبيب في تطبيع المقدسيين وإجبارهم على التعايش مع الاحتلال»، مشدداً على أن «الإصرار على الاحتفاظ بـ«القدس الشرقية» يتعارض مع المصلحة «الإسرائيلية»، لأن الفلسطينيين لن يسلموا ببساطة بالأمر».. نعم لن يسلم الشعب الفلسطيني بالأمر الواقع، والأيام القادمة، شاهد على ذلك.