الحراك العراقي.. الانقلاب على الانقسامات العمودية
تكبَّد البلد تقسيماً وتحاصصاً سياسياً تحت ستار الصيغة الطائفية، الصيغة التي رسخها المحتل الأمريكي سبيلاً للإبقاء على العراقيين مشرذمين خاضعين لمنظومة النهب الإمبريالي. غير أن حراك اليوم، وإن كان فتياً، إلا أنه يحمل في طياته ضرباً موجعاً في تلك المنظومة ومشغليها.
خلافاً للمطامح الأمريكية بتأبيد التركيبة الطائفية في الوعي الجمعي العراقي، يواصل الحراك الشعبي امتداده ليطال مناطق عديدة و«مختلفة» من حيث الانتماءات والولاءات الطافية على سطح المشهد العراقي. فمن عوَّل على حصرية الحراك في المناطق الجنوبية كالبصرة والناصرية وكربلاء، كُسِرت أوهامه عند أول تظاهرة احتجاجية خرجت في بغداد وديالى، ضاربة بعرض الحائط حالة شد العصب الطائفي السائدة في العراق وفق النظام المهيمن على قراره أمريكياً.
تجاوز الحقوق لم يعد ممكناً
بنيت منظومة التحاصص أساساً على القدرة التي توفرت لدى الزعامات السياسية التي جاءت، بطريقة أو بأخرى، على ظهر الدبابة الأمريكية، لسرقة قوت الشعب العراقي وإلهائه في دوامات الشحن والاستقطاب العمودي المعتمد على التناقضات الثانوية.
توافرت هذه القدرة من خلال الظرف الدولي والإقليمي الناشئ إبان الاحتلال الأمريكي للعراق. ومع إرهاصات أفول النجم الأمريكي في العالم، استمدت منظومة النهب العراقي استمرارها من الوضع المحدد للخلافات والتجاذبات الإقليمية، حيث ساهمت هذه الخلافات في صعود أو هبوط القوى السياسية والزعامات بناءً على الأوزان الدولية والإقليمية أولاً.
في السابق، سمحت جملة التغيرات في موازين القوى بالإبقاء على حالة النهب، مع تغيير نسبي في هوية الجهة الناهبة عراقياً. حيث كان الثابت هو استنزاف الموارد العراقية وتغيير الوجوه الحاكمة من داخل الطبقة الناهبة. أما اليوم، ومع تغير الظروف الدولية والإقليمية خلافاً لمصلحة المركز الإمبريالي، وتعمق الأزمة في الداخل العراقي، وما يرافقها من تصاعدٍ في درجة الحراك الشعبي، لم يعد ممكناً تجاوز مطالب الشعب في إنهاء حالة التحاصص، انطلاقاً من مواجهة الفساد، حتى ولو أخذ ذلك في البداية حالة «تصفية حسابات».
بنية التفتيت ولحظة التجميع
جاء الغزو الأمريكي للعراق ليعبر عن أزمة المركز الإمبريالي، لا عن قوته كما فسر كثيرون. فالانتقال من أدوات التحكم الأعقد والأقل تكلفة، إلى التورط في مستنقعات الحروب العسكرية، شكَّل أولى الإرهاصات على تلك الأزمة.
وإذ استند هذا الغزو على المخطط الأمريكي القاضي بأقصى درجات التفكيك لبلدان المنطقة والبلدان المتاخمة لحدود الخصوم الاستراتيجيين على الصعيد العالمي، فإن «المخطط الآخر» كما بدا واضحاً لدى الدول الكبرى المتضررة من مرحلة الهيمنة الأمريكية يقوم على التكامل الاقتصادي وتجاوز فكرة الربح الأقصى، والحلول السياسية بديلاً عن منطق الحرب الأمريكي.
إلى ذلك، إن كانت رؤية المشهد العراقي منطلقة من إدراك للتغيرات الجارية في الأوزان الدولية، بما تحمله من تراجع أمريكي بات معترفاً فيه حتى من الأوساط الداخلية الأمريكية، وتقدم للقطب الآخر الحامل للمشاريع الاقتصادية المعتمدة على تعزيز البنى التحتية وتعزيز دور أجهزة الدولة، فإن العراق، وفق هذه الرؤية، مؤهلٌ لتجاوز حالة التحاصص في الأفق المنظور، ولكن هذه الأهلية ذاتها هي التي ستدفع بكل المتضررين لركوب الموجة الشعبية أو محاولة حرفها عن مسارها، إن لم يكن احتوائها، ما يستدعي من العراقيين أعلى درجات الحذر واليقظة الوطنية.