تقشف وعسكرة وفساد.. رومانيا نموذجاً
يمضي الاتحاد الأوروبي غارقاً في خلافاته المشتقة من أزماته المالية والاقتصادية، ابتداءً من سياسة التقشف وما تخلقه من احتقانٍ اجتماعي، وصولاً إلى العسكرة تحت الطلب الأمريكي، مروراً بقضايا الفساد الداخلي المتصاعد، وهي الملفات الثلاثة الفاعلة في رومانيا.
إنها العضو الحديث نسبياً في الاتحاد الأوروبي. رومانيا، الدولة الواقعة في شرق أوروبا، والمجاورة للجبهة الأوكرانية الساخنة. على الرغم من أن عضويتها في الاتحاد الأوروبي لم تتجاوز عامها السادس، إلا أن النظر إلى واقعها الاقتصادي الاجتماعي كفيلٌ بإيضاح حجم الضرر الذي تعرضت له الدولة، كنظيراتها من دول الأطراف الأوروبية.
«إصلاحات» ما بعد السوفييت
بين عامي 1990-2000، دخلت رومانيا- الخارجة لتوها تحت قيادة الليبراليين من الحقبة السوفييتية- طوّر الإجهاز على قطاعات الدولة التي جرت خصخصتها بالكامل. ولضرب الاقتصاد أكثر فأكثر، جرى ترسيخ نموذج اقتصادي تتجاوز فيه حصة قطاع الخدمات نسبة 51.2%. وفيما هبطت مساهمة الصناعة إلى 12.8%، والزراعة إلى 36%، ولم يتجاوز متوسط الأجور في البلد أكثر من 440 يورو.
على هامش الأزمة الاقتصادية عام 2008، عانى الاقتصاد الروماني من الانكماش، ودخلت البلاد في أزمة حادة وصلت معها معدلات البطالة إلى 10%، لا سيما أن ذلك توازى عملياً مع موجات الجفاف المتتالية بين عامي 2007- 2009، والتي دمَّرت أكثر من 60% من المحاصيل الزراعية في بلدٍ يحتل المرتبة الأولى أوروبياً من حيث نسبة الفقر لدى الأطفال.
إثر ذلك، وكما يحصل دائماً في أوروبا، شرع الرئيس الروماني، ترايان باسيسكو، بتطبيق «الإصلاحات» الليبرالية التقشفية التي اقترحها سابقاً صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي في كانون الثاني 2012. وجرى، منذ ذلك الحين، خفض رواتب العمال والموظفين بنسبة 25%، ورواتب التقاعد بنسبة 15%، فضلاً عن وقف عددٍ من البرامج الاجتماعية، وفصل مئات العمال في المؤسسات الحكومية، وضرب الضمان الصحي ورفع أسعار الأدوية والمعالجة في المستشفيات، وفرضت ضرائب على الخبز والأغذية، وارتفعت فوائد البنوك، وغير ذلك الكثير.. ما سبب موجات عدة من الاحتجاجات الرافضة للتقشف.
في ضوء الاشتعال الأوكراني
منذ اندلاع الأزمة لدى جارتها الشمالية، تكرست رومانيا كنقطة استفزاز يستخدمها حلف «الناتو» في مواجهته مع روسيا، وتجلى ذلك من خلال التدخلات المتصاعدة في الشؤون المولدافية، وارتفاع وتيرة المناورات العسكرية لحلف «شمال الأطلسي»، وإقامة المزيد من القواعد العسكرية داخل الأراضي الرومانية، والتي وصلت إلى أوجها في أيلول 2014 عندما قررت قمة «الناتو» المنعقدة في منطقة ويلز البريطانية إقامة خمس قواعد عسكرية له ونشر 4000 جندي إضافي في رومانيا، هذه القمة التي درست مهمة «توسيع الناتو شرقاً» في ضوء الأحداث الأوكرانية.
وحديثاً، وافق البرلمان الروماني في 24/6/2015 على إقامة قاعدتين للناتو فوق أراضي رومانيا، على أن يجري التنفيذ في عام 2016. وقامت الحكومة الرومانية بزيادة نفقاتها العسكرية من 1.4% إلى 2%، بالتوازي مع تكثيف المناورات العسكرية الأمريكية- الرومانية المشتركة في البحر الأسود في عام 2015، والتي شاركت فيها المدمرة الأمريكية «لابون» المعنية بإدارة الأسلحة الصاروخية في إطار مشروع «الدرع الصاروخية» الأمريكية.
فساد الطاقة والتراجع الكارثي
كما هو شائعٌ عن ممثلي المشروع الأمريكي في البلدان الأوروبية، أقام القضاء الروماني في 13/7/2015 دعوة ضد رئيس الوزراء الروماني، فيكتور بونتا، أحد ممثلي الائتلاف الحاكم في البلاد منذ 2012 وشخصياتٍ أخرى بتهمة التهرب الضريبي وغسيل الأموال، وجرت مصادرة أرصدته المالية بشكل موقت.
ويعتبر بونتا أحد أشد المعارضين لمرور خط نقل الغاز الروسي عبر رومانيا، بينما واقع الطاقة الروماني يتطلب التعاون والتكامل مع الروس، لا سيما في الحالة المتدهورة التي يكابدها الاقتصاد الروماني من جراء الخسائر الكبيرة في مجال الطاقة، في ظل وجود وضع إقليمي متجه نحو التكامل الاقتصادي.
أمام هذا الوضع، تستمر حكومة بونتا في دعمها للشركات النفطية الغربية، على حساب المصالح العميقة للشعب الروماني، إذ يجري تسويف مشاريع النفط والغاز وزيادة التحكم فيها غربياً، في الوقت الذي تسجل فيه مؤشرات الاقتصاد الروماني تراجعاً كارثياً يضعها على قائمة الدول المرشحة للانفجار في سياق الانفجارات الاقتصادية الاجتماعية في عموم دول الأطراف الأوروبية.