منعطف تاريخي ضد الهيمنة الأمريكية؟
المركز العربي للبحوث والدراسات* المركز العربي للبحوث والدراسات*

منعطف تاريخي ضد الهيمنة الأمريكية؟

رغم تحريض الولايات المتحدة ضده، اتفقت سبع وخمسون دولة على العمل معاً لإعداد قواعد وأنظمة بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية «AIIB»، والذي من المتوقع تأسيسه رسمياً في نهاية العام الجاري 2015 بالعاصمة الصينية بكين، التي ستكون مقره الرئيس.

ربما هذه هي المرة الأولى التي لا تكون فيها واشنطن قادرة على إحباط إنشاء مؤسسة اقتصادية آسيوية منافسة. فبعد الأزمة الاقتصادية الآسيوية في عام 1997، على سبيل المثال، منعت الولايات المتحدة إقامة صندوق نقد آسيوي، ولكنها الآن تبدو عاجزة عن وضع العصي في عجلات تأسيس هذا البنك، الذي طرح فكرته الرئيس الصيني، شي جين بينج، في 2 الأول 2013، لتحفيز الاستثمار في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات وغيرها من مجالات البنية الأساسية في آسيا.


أثارت الخطا المتسارعة مؤخراً لتأسيس البنك، الذي يعد أحدث مؤسسة تمويل متعدد الأطراف في العالم، جدلاً ونقاشاً ساخناً حول ما إذا كان العالم قد أصبح أمام منعطف تاريخي جديد يتضمن تحدياً للنظام الدولي المالي والاقتصادي العالمي الذي تأسس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بقيادة واشنطن، ويعرف باسم نظام «بريتون وودز»، وأهم مؤسساته البنك وصندوق النقد الدوليين.
فمن اللافت أن عدداً غير قليل من حلفاء الولايات المتحدة قد انضم إلى هذا البنك، كأعضاء مؤسسين، رغم التحفظات والاعتراضات الشديدة التي صدرت من واشنطن تجاهه. حيث التحقت دول أوروبية مهمة مثل المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وسويسرا بهذا البنك في شهر آذار الماضي، وهو الأمر الذي يعكس بوضوح، حسب كثير من المراقبين، أن عدداً من أكبر الاقتصادات الأوروبية التي شاركت الولايات المتحدة في إرساء النظام الاقتصادي العالمي خلال العقود السبعة الماضية، قد أصبحت تغرد خارج السرب الأمريكي نتيجة ميلها إلى اللحاق بركاب العملاق الاقتصادي الصيني، بغض النظر عما إذا كان هذا البنك الجديد سوف يكون بمثابة منافسٍ قويٍ لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين تهيمن عليهما واشنطن، وبنك التنمية الآسيوي الذي تهيمن عليه اليابان.
حماس صيني مفهومتكمن أهمية البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والذي يبلغ رأسماله 100 مليار دولار، في أنّه يبدو كمن يتجاوز البنك وصندوق النقد الدوليين، ويعطي نافذة جديدة للاستثمار في مشروعات البنية الأساسية في آسيا. حيث يهدف هذا البنك بالأساس إلى تلبية الطلب الكبير على تمويل هذه المشروعات قدر الإمكان. إذ تشير كثير من التقديرات الصادرة عن مؤسسات التمويل العالمية إلى أن احتياجات الاستثمار في مثل هذه المشروعات تتجاوز 73 مليار دولار خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2020، مؤكدة على أن البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي وغيرهما من مؤسسات التمويل الدولية لا يمكنها تلبية مثل هذه الاحتياجات التمويلية الضخمة في الدول الآسيوية.
ومن هنا، تنبع أهمية هذا البنك المدعوم من الصين، التي تمتلك حالياً أكبر احتياطي عالمي من العملات الأجنبية مقداره حوالي 4 تريليونات دولار(..) ويفسر كثير من الخبراء حماس بكين لتأسيس البنك بكثير من العوامل المهمة، لعل في مقدمتها ما يلي:
أولاً، (..) ظلت واشنطن متحفظة على منح الصين دوراً أكبر في مؤسسات التمويل العالمية والآسيوية، سواء كان ذلك فيما يتعلق بشغل المناصب القيادية في هذه المؤسسات، أو فيما يتعلق بحقوق التصويت داخلها. فمن جهة، تم قصر أبرز مناصب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الآسيوي التنموي على أوروبيين وأمريكيين ويابانيين، بينما تم استبعاد الكوادر الصينية من هذه المناصب المؤثرة. وبالتزامن مع ذلك، رفض الكونجرس الأمريكي أيضاً إقرار قوانين جديدة توزع حق التصويت بشكل أكثر عدالة بين الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، ومنها الصين. 
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن القدرة التصويتية لبكين في صندوق النقد الدولي هي 4 في المائة فقط مقابل 17.69 في المائة للولايات المتحدة، بينما تبلغ القدرة التصويتية الصينية في البنك الدولي 5.1 في المائة مقابل 17.3 في المائة للأمريكيين. ومنذ عام 2010، تقرر تعديل طفيف يزيد نسبة أصوات الصين ودول أخرى في الصندوق والبنك، لكن منذ ذلك الوقت والكونجرس الأمريكي يعطل تنفيذ هذا القرار.
ثانياً، ميل القيادة الصينية في الآونة الأخيرة إلى بناء علاقات اقتصادية وثيقة مع جيرانها الآسيويين كوسيلة لزيادة نفوذها السياسي والدبلوماسي في آسيا، لمواجهة ما يعرف بـ«الاحتواء» الأمريكي المتزايد لها. وقد ظهر ذلك في إعلان بكين عن عدد من المبادرات الاقتصادية المهمة شملت إقامة طريق الحرير الجديد البري عبر آسيا الوسطى، وطريق الحرير البحري، عبر بحار جنوب شرقي آسيا، على أن يلعب البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية دوراً كبيراً في تمويل هذه المبادرات.(..)
معارضة أمريكية شديدةالحماس الشديد من جانب القيادة الصينية الحالية لإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية واجه مقاومة شديدة من جانب واشنطن. وفسر المراقبون هذه المعارضة العنيدة بأمرين على الأقل. الأمر الأول يتمثل في وجود قلق لدى دوائر الأعمال والمال الأمريكية بأن يؤدي هذا البنك إلى ترسية المشروعات الجديدة للبنية الأساسية في القارة الآسيوية، والتي تتراوح تقديراتها المبدئية خلال العقد القادم بين خمسة وثمانية تريليونات دولار، على الشركات الصينية بدلا من الشركات الأمريكية.
أما الأمر الأخر فهو التأثيرات السلبية المحتملة لهذا البنك على وضع العملة الأمريكية (الدولار) في المنظومة المالية العالمية. فالصفقات التجارية الحالية التي تجريها دول العالم يتم معظمها بالدولار. وهذا يعطي الاقتصاد الأمريكي ميزة نادرة. ولذلك فإن الولايات المتحدة لا ترغب أن ترى عملة أخرى تنافس عملتها. وهي على هذا الأساس تخشى أن يساهم إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية في الترويج لليوان الصيني على حساب الدولار.

انهيار الدولار والوضع الجديد

(..) يعتبر (هذا البنك) على الأرجح انعكاساً لميزان القوى الاقتصادية التي سوف تأخذ على عاتقها تشكيل النظام الاقتصادي والمالي العالمي خلال الفترة القادمة. وهو نظام مثلما نرى ليس أحادي القطب، وإنما متعدد الأقطاب، تقوده الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وألمانيا. فالدول التي انضمت إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ليست ضد الولايات المتحدة، ولا ضد تطوير العلاقة التجارية والاستثمارية معها، بما في ذلك الصين ذاتها.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن مولد البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية يمثل إشارة قوية على تراجع نفوذ واشنطن على الساحة العالمية (..)، وهو ما قد يكون بداية حدوث تحول حقيقي في القوة والنفوذ في القرن الواحد والعشرين. ومما يدلل على ذلك، تأكيدات مصدر مقرب من البنك المركزي الصيني (بنك الشعب) على أن بكين تخطط لتشجيع استخدام عملتها «اليوان»، المعروفة محليا بـ«الرنمينبي»، في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، من أجل دفع تدويل اليوان في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فإذا ما تحقق ذلك على أرض الواقع خلال السنوات المقبلة، فسوف يتحول العالم، تدريجياً من الانحناء أمام عظمة الدولار القوي، إلى وضع جديد.


*تأسس عام 1998، مقره القاهرة