هل بلغت السعودية حافة الإفلاس المالي والسياسي؟
عمد الملك سلمان، عندما تربع على العرش، إلى إنفاق «مكافآت» على العاملين والمتقاعدين بقيمة 32 مليار دولار لكي ينال شعبية، فيما زاد من الإنفاق على السلاح (رابع أو خامس أكبر إنفاق عالمي) ومن تصعيد الحرب- ليس ضد الصهاينة طبعاً، وإنما ضد سورية والعراق- عبر مساعدة المنظمات الإرهابية، وشن (بمساعدة ابنه الذي أصبح وزير حرب) حرباً جوية باهظة التكاليف على اليمن.
وجرى ذلك في ظرف سيء بالنسبة لاقتصاد السعودية، حيث ارتفع حجم الأموال الخارجة منها لتبلغ نحو 8% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً منذ 2011، فيما سحبت الحكومة معدل 12 مليار دولار شهرياً من الإحتياطي النقدي بين آب 2014 (حيث بلغ 737 مليار دولارا) وأيار 2015 حيث انخفض إلى 672 مليار دولار، كما انخفضت قيمة الأصول الأجنبية للبنك المركزي بمعدل سنوي قدره 120 مليار دولاراً، بسبب سحب أموال منها، وتتمثل الأصول الأجنبية بأوراق مالية أجنبية منخفضة المخاطر (وبعوائد منخفضة أيضاً) مثل سندات الخزانة الأمريكية وودائع في مصارف في الخارج ومعظمها بالدولار الأمريكي.
من البذخ إلى التقشف
يتسم اقتصاد السعودية بالضعف وعدم التنوع، وتعتمد الميزانية على إيرادات النفط بنسبة 90% إضافة إلى السياحة الدينية (الحج والعمرة)، ولم تنشئ العائلة الحاكمة أي صناعة لا تعتمد على النفط بعد خمسة عقود من تدفق أموال الريع النفطي ولا يمكن لأي دولة الإعتماد على النفط وحده (أو غيره من المعادن الخام) لدفع الإقتصاد وإدامته، ويظهر ذلك بجلاء خلال فترات التراجع الحاد والمستمر في أسعار النفط الذي يؤدي إلى عجز مالي تغطيه الحكومة من خلال السحب من الاحتياطيات (التي هي أقل أهمية من احتياطيات الكويت والإمارات وقطر مقارنة بعدد السكان وبالناتج المحلي).
(..) وقدر تقرير لجامعة «هارفارد» كتبه مسؤول سعودي سابق في «مؤسسة النقد السعودية» (البنك المركزي) أنه كان بإمكان السعودية توفير تريليون دولار إضافي بأصولها المالية، لو أحسنت إدارة استثمار وتدوير الإحتياطيات، التي ستنخفض إلى 200 مليار دولار أواخر سنة 2018 في حال استمرار النهج الحالي، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ عجز الموازنة 20% من الناتج المحلي الإجمالي، أو قرابة 140 مليار دولار هذا العام (2015)، ما قد يؤدي إلى ارتفاع حجم ووتيرة هروب رؤوس الأموال خارج البلاد، وما سيضطر آل سعود إلى خفض الإنفاق، كما حصل في منتصف الثمانينيات، وقد لا يكون ذلك كفيلاً باستقرار الإقتصاد، مما سيضطر الدولة إلى تطبيق سياسات التقشف الصارم وإقرار ضريبة على الدخل وخفض أو إلغاء دعم الطاقة (البنزين والكهرباء)، وربما الكف عن رعاية الإرهاب وخفض نفقات الحروب التي ساهمت بشكل كبير في إشعالها وتمويلها.
(..) ورفعت السعودية إنتاجها إلى 10,6 مليون برميل يومياً لإغراق السوق وإخراج المنافسين الصغار (في ظل ضعف الطلب من أوروبا والصين)، إضافة إلى إضعاف اقتصاد روسيا وبالتالي إضعاف موقفها في سورية واليمن، بينما يتوقع تقرير صادر عن «بنك أوف أمريكا» ويتقاطع مع تحاليل صندوق النقد الدولي، دخول الإقتصاد السعودي مرحلة الأزمة خلال سنتين، وربما ينتهي الدور الوظيفي للسعودية كهراوة بيد أمريكا بحلول نهاية العقد الحالي. (..)كما يتوقع تقرير مؤسسة النقد عجزاً في موازنة 2015 بأكثر من 180 مليار ريال (قرابة خمسين مليار دولار).
فروقات طبقية مجحفة
رغم الإنخفاض الحاد لأسعار النفط وانخفاض موارد الدولة، يتوقع تقرير لمؤسسة «ويلت إنسايت» (بريطانيا) ارتفاع عدد الأثرياء في السعودية بنسبة 27% خلال السنوات الخمس المقبلة، بسبب خصخصة قطاعات أساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والتأمين التي استحوذ عليها هؤلاء الأثرياء، ومعظمهم من العائلة الحاكمة والمقربين منها. وقدرت مجلة «فوربس» ثروة الأمير الوليد بن طلال (الذي يفتخر بشراكته مع الصهاينة ويستثمر في تل أبيب) بنحو 27 مليار دولار، وارتفعت في ظل انخفاض أسعار النفط، بقيمة 2,2 مليار دولار خلال أقل من عام واحد، وهو يستثمر (من جملة استثماراته) في تويتر ومصرف سيتي غروب وقطاع العقارات والفنادق والإعلام (مع صديقه الصهيوني روبرت ميردوخ)، في حين يعاني 60% من السعوديين من عجزهم على شراء مسكن، ولا يصل راتب السعوديين في القطاع الخاص ثلاثة آلاف ريال أي أقل من 800 دولاراً مقابل 48 ساعة عمل، وهو راتب السعوديين، وليس الأجانب الذين يبلغ معدل راتبهم في القطاع الخاص أقل من 500 دولار. وتبين دراسات عديدة أن الحد الأدنى الضروري للعيش في السعودية يتراوح بين ستة آلاف وثمانية آلاف ريال شهرياً (بين 1600 و2134 دولاراً) نظرا لغلاء المسكن وأسعار المواد الضرورية وغلاء العلاج والأدوية إلخ. وبينما نمت ثروة الأثرياء بمعدل 29% خلال السنوات الخمس الماضية، يعاني الشباب من البطالة والحرمان وخصوصاً في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. أما عن العمال الأجانب فحدث ولا حرج.
(وفيما تريد واشنطن من السعودية ومشايخ الخليج أن تكون سوقاً لتصريف السلاح واستعداء دول إفليمية أخرى كإيران) يتوقع جميع الخبراء استمرار انخفاض أسعار النفط لمدة طويلة، وكتب بعضهم أنه من العسير أن يصل إلى 100 دولاراً للبرميل مستقبلاً، وأن مرحلة النفط الأحفوري قد انتهت، وقد تنتهي معها السعودية الحالية، وسيحل محله النفط الصخري (والغاز الصخري كذلك). فالولايات المتحدة خفضت من وارداتها من النفط العربي وكفت عن استيراد النفط الافريقي الخفيف (نيجيريا) وهي بصدد بيع نفطها إلى الخارج وبصدد إنهاء حظر تصديره الذي كان ساري المفعول منذ 1974 وتطرح نفطها للبيع والتسليم سنة 2020 بأسعار منخفضة جداً، بعدما طورت الشركات الأمريكية تقنيات استخراج النفط الصخري وخفض تكاليفه إلى النصف تقريباً، ما جعله منافساً جدياً لنفط حلفائها كالسعودية ولنفط خصومها مثل فنزيلا وروسيا، وتزامنت هذه الوقائع ذات الصبغة الإقتصادية مع وقائع أخرى ذات صبغة استراتيجية وعسكرية وسياسية، أهمها:
تخريب البلدان التي كانت تحاول انتهاج سياسة مستقلة، ولو في بعض جوانبها، مثل العراق وليبيا والجزائر وسورية، وتكليف السعودية بالمهام القذرة في سورية واليمن (كما كان الحال جزئيا في ليبيا) وربما في الجزائر لاحقاً
بعد قيام الجيش الأمريكي بالمهمة الرئيسية، تتكفل السعودية وأخواتها بإنهاء المهام القذرة المتبقية (الحرب بالوكالة)، ما يتيح للجيش الأمريكي الإكتفاء بالقصف الجوي والإغتيال عن بعد بواسطة الطائرات الآلية وتخفيف وجوده في المنطقة، والإتجاه شرقاً نحو محاصرة الخصم القوي المتمثل في الصين، وهي استراتيجية أعلن عنها الرئيس باراك أوباما وبدأ في تنفيذها وتركيز قواعد ضخمة في استراليا وكوريا الجنوبية واليابان والفلبين وفيتنام لاحقاً.
أنفقت السعودية، ولا زالت أموالا طائلة على صفقات سلاح- من الولايات المتحدة بشكل خاص وفرنسا بدرجة ثانية- لتنفيذ مهام مناهضة لمصالح الشعوب العربية والشعب الفلسطيني بالخصوص، كما أنفقت أموالاً طائلة (يمكن أن تقضي على الفقر في السعودية) في الخارج، على الإعلام والرشاوى وشراء الذمم.
من مظاهر الإفلاس
يواصل حكام السعودية تبذير أموال الشعب السعودي (والشعوب العربية) في البذخ والرحلات المكلفة، إذ بلغت تكاليف رحلة استجمام الملك في فرنسا والمغرب نصف مليار دولار (ما يزيد عن حاجة مخيم فلسطيني كبير لمدة سنة كاملة) وشراء العقارات في عواصم أوروبا وتكديس السلاح الذي يوجهونه نحو البلدان العربية، رغم انخفاض سعر النفط منذ أكثر من سنة بمعدل 50% أي انخفاض الإيرادات. وسبق أن عرفت السعودية مرحلة مشابهة سنة احتلال العراق (2003) عندما استمر استقرار سعر النفط المنخفض وانخفض معه دخل الفرد لقرابة عشر سنوات، في حين ارتفع عدد السكان وارتفعت حاجاتهم ومتطلبات الحياة لديهم، ومع ذلك فقد أنفقوا على الحرب الأمريكية في العراق وفي افغانستان، وطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي آنذاك حكام السعودية بتنفيذ «إصلاح هيكلي»، إذا رغبوا في البقاء في الحكم وتفادي ثورة قد تعصف بحكمهم، ولكنهم لم يفعلوا، خوفاً من ردود فعل فقراء الشعب. وورد في تقارير المؤسسات المالية الدولية أن الخطر على نظام الحكم لن يكون من الخارج، بل من الداخل، بسبب الفساد والتبذير وسوء إدارة الموارد، ما قد يؤدي إلى عدم القدرة على تمويل الموازنة المتضخمة، بل عجز الموازنة خلال سنوات قليلة. لكن ارتفعت أسعار النفط فيما بعد، وعادت معه «حليمة إلى عادتها القديمة»، أي توزيع جزء من الريع النفطي بهدف تخدير المجتمع بموافقته ورضاه، إلى أن تغير الظرف وحلت الأزمة من جديد (وهي عملية دورية، تعود كل عشر سنوات تقريباً، كمعدل).
(..) تباطأ نمو اقتصاد السعودية وانخفض خلال فترة قصيرة من 10% سنة 2011 إلى 3,5% سنة 2014، ولكنها لا زالت مصنفة من البنك الدولي ضمن الدول ذات الدخل المرتفع، بناتج محلي إجمالي قدره 746,2 مليار دولار سنة 2014، وفي حال استمرار المستوى الحالي للأسعار، ستعاني السعودية من عجزٍ يفوق 140 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل كامل موازنتها لسنة 2009، وفي حال انخفاض سعر البرميل واستقراره تحت 50 دولار واضطرار الحكومة إلى السحب باستمرار من احتياط «مؤسسة النقد» الذي انخفض حالياً إلى 630 مليار دولار، (..) أما الحكومة فقد سحبت 60 مليار دولار منذ بداية العام الحالي، لتعويض انخفاض الموارد المتأتية من النفط، وتعتزم طرح سندات دينٍ عام، للمرة الأولى منذ 2006، ونذكر بأن طرح السندات يعني رهن الممتلكات العمومية لمدة معينة مقابل سيولة نقدية آنية، وفي حال عدم قدرة الدولة على السداد خلال الفترة المحددة، تصبح الممتلكات (موضوع الرهن) ملكا للدائنين، وتعتبر السندات الأداة الأقل تكلفة للحصول على ديون تتمثل في السيولة الضرورية لتمويل مشاريع الحكومات (والشركات أيضاً) وتغطية ديونها، ويقبل عليها المستثمرون لأنها توفر ربحاً جيداً مقابل مخاطر محدودة. وفي الظرف الحالي، يتوقع خبراء الإقتصاد استمرار أسعار النفط المتدنية لفترة طويلة، ما قد يضطر أفراد الأسرة الحاكمة (حوالي خمسة آلاف شخص) إلى خفض نفقاتهم أيضاً، لتبرير خفض دعم الكهرباء والماء المُحلى (50 مليار دولار سنوياً) وإقرار ضريبة على الدخل وخفض الإنفاق الإجتماعي الخ.
مقاطع موسعة نقلاً عن نشرة كنعان الالكترونية