«ويليام شاباس» الاستقالة أو القتل!
لم تتوقف خطة التهجير والتدمير التي ترافقت مع وصول عصابات المستعمرين للأرض العربية الفلسطينية، بل أخذت أبعاداً جديدة على يد جيشٍ، قوامه القتلة الذين نفذوا المذابح. لهذا، تأسست «عقيدة» هذا الجيش على تنفيذ المجازر، لتحقيق التطهير العرقي والاستيلاء على الأرض طوال السنوات التي تلت إعلان قيام الكيان/ الثكنة عام 1948
كانت الحرب العدوانية التي شنها جيش الغزو والاحتلال على قطاع غزة الصامد في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس عام 2014، هي المجزرة الأكثر حداثة في مسيرة الاعتداءات الصهيونية، سقط خلالها أكثر من 2200 شهيد وما يقارب 12 ألف جريح، وتهجير مئات الآلاف من المواطنين من بيوتهم المدمرة، مع الإجهاز شبه الكامل على البنى التحتية في القطاع.
المجزرة والضمير الإنساني
أمام هول المذبحة، تحرك الرأي العام العالمي، الذي انعكست ارتدادات نشاطاته اليومية على المؤسسات الدولية، ما دفع بمجلس الأمن لإصدار قراره في 23 تموز/ يوليو لتشكيل لجنة تحقيق دولية في أسباب، ومن ثم، نتائج العدوان الوحشي الذي استمر واحد وخمسون يوماً على غزة. هذه اللجنة ترأسها الحقوقي الكندي، ويليام شاباس، للبدء في تنفيذ مهامها، وبعضوية مندودو ديين من السنغال، الذي شغل سابقاً مراقب وكالة «برتراند راسل لمناهضة العنصرية» بعد صراع ساحل العاج، والحقوقية النيويوركية السابقة، ماري ماكغاون ديفيس.
تحددت مهمة اللجنة بالنظر بـ«انتهاكات محتملة للقانون الدولي الإنساني في العمليات العسكرية التي يشهدها قطاع غزة». وعلى الفور، وصف جهاز الاتصال التابع لرئيس حكومة العدو، قرار مجلس الأمن بأنه «مهزلة»، وأعرب عن استياء الحكومة من اختيار شاباس لرئاسة اللجنة، كونه «منحازاً للطرف الآخر (الفلسطينيين)، وسجله يشهد على ذلك.. والتقرير قد كُتب بمجرد تعيين شخص يحمل آراء ضد «إسرائيل» مثل شاباس، والعنوان بات معروفاً قبل البدء بالتحقيق».
وكعادتهم، لم يتحمل مجرمو كيان العدو الصهيوني، انكشاف حقيقتهم الفاشية، فبدؤوا حملة واسعة على أكثر من جبهة لإبعاد شاباس عن اللجنة، إنطلاقاً من أن الحقوقي الكندي كان قد قدم إستشارة قانونية «مدفوعة الأجر» في عام 2012 لسلطة الحكم الإداري الذاتي من أجل تعزيز مكانتها الدولية لتصبح دولة غير عضو في الأمم المتحدة.
في سجل أستاذ القانون الدولي، ويليام شاباس، ما يشير إلى دفاعه الموضوعي عن حقوق الإنسان الفلسطيني المستباحة على يد قادة الكيان، حيث كانت له شهادة في كانون الثاني/ يناير عام 2013 أمام لجنة راسل حول فلسطين «Russell Tribunal on Palestine» في نيويورك، والتي تهتم بالفلسطينيين، شدد خلالها على القول «أود أن أرى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو في قفص الاتهام أمام محكمة لاهاي الدولية المكلفة بالتحقيق في جرائم الحرب».
الكيان والعداء لدور اللجنة
منذ أن بدأت لجنة التحقيق الدولية عملها، سارعت حكومة العدو، بدعم من حلفائها الدوليين والإقليميين، للتشكيك بدورها «المنحاز سلفاً.. نظراً لانعدام الحيادية والموضوعية» من خلال رئيسها، وبدعوة الهيئات الدولية المعنية لمطالبته بالاستقالة. وهذا ماعبّر عنه شاباس في شهر أيلول/ سبتمير من العام الماضي حينما أعلن عبر حديثه مع صحيفة «الشرق الأوسط» الصادرة في لندن: «أتعرض لضغوط شديدة من الحكومة «الإسرائيلية».. لا، لن أستقيل إلا إذا رأى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن وجودي على رأس اللجنة سيعطل سير التحقيق، وإلا فلن أستقيل». مضيفاً: «أنا لم أسمع هذه الدعوات إلا من «الإسرائيليين»، وإعلامهم ومن المؤيدين لهم، ولن أفسح المجال لأي منهم ليزعجني، فأنا هنا من أجل القيام بعمل كلفت به ولن أتراجع، والتحقيق يجب أن يجري».
تهديد شاباس بالقتل
مع مرور الوقت، وبدء اللجنة بكتابة تقريرها، صعدّت حكومة المستعمرين الصهاينة من حملة العداء على رئيس اللجنة، لتصل لمستويات خطيرة، دفعت بـ«شاباس» ليعلن عبر مجلة «عين على الشرق الأوسط» الأجنبية عن استلامه لتهديدات بالموت: «تلقيت بريد الكتروني يحوي تهديدات عدوانية جداً. تهديدات على حياتي». مضيفاً: «لا ألوم أي تنظيم أو دولة بالقيام بهذه التهديدات.. لكن هناك أجواء ساعدت على ذلك، لأن هناك أشخاص لايرغبون بالتحقيقات».
لكن الحقوقي الكندي البارز، الخبير بقضايا حقوق الإنسان، اضطر لتقديم استقالته للمفوضية العليا لحقوق الإنسان صباح يوم الثلاثاء في الثالث من شهر شباط / فبراير الحالي، معللاً سبب اتخاذه قراره بـ«منع أي تأثير لهذه القضية على إعداد تقرير اللجنة ومستجداته، والذي يتوقع أن يصدر في آذار/مارس المقبل».
على الفور، رحبت حكومة العدو على لسان أكثر من مسؤول فيها باستقالة شاباس. نائب وزير الخارجية، تساحي هانغبي، قال: «لا ضلع لـ «إسرائيل» في الضغوط التي مورست عليه لتقديم الاستقالة». أما ياريف ليفين، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، فقد دعا إلى «حل لجنة التحقيق الدولية كلياً، معتبراً، أن تعيين شاباس رئيساً لها كان خاطئاً من أساسه»، مضيفاً: «إن خطوة شاباس هذه هي دليل آخر على أن جهوداً دبلوماسية حازمة وإصراراً حكومياً ـ تقرأ: الضغط الصهيوني والأمريكي- يؤديان في نهاية المطاف إلى تحقيق نجاحات في الحلبة المعادية التي يشكلها مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة». أما نتنياهو، فلم يكتفي بالدعوة إلى تهميش التقرير الدولي الذي كان يشرف على إعداده شاباس، بل «وضع تقرير اللجنة على الرف»، وهو ما يعكس استهزاءً بأي قرار دولي لا ينحاز لجانب القاتل.
ابتزاز صهيوني واستجابة دولية
لم تكن استقالة شاباس مفاجئة، فقد سبقه لذلك القاضي ريتشارد جولدستون، الذي قدم تقريراً تضمن توصيات بالتحقيق باحتمال حدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قام بها جيش العدو الصهيوني أثناء الحرب التي شنها على قطاع غزة أواخر عام 2008 وبداية عام 2009.
بعد نشر التقرير، تعرض جولدستون لحملة صهيونية مدعومة باللوبيات اليهودية الضاغطة في الولايات المتحدة الأمريكية وعدة دول أوروبية، أدت إلى تراجعه عن التوصيات. لكن اللافت للنظر والمثير للشكوك، كانت السرعة التي استجاب فيها مجلس حقوق الإنسان لطلب الاستقالة، وللتكليف السريع برئاسة اللجنة للقاضية الأمريكية، ماري ماكغاون ديفيس. وقد تلقت حكومة العدو نبأ الإعلان عن تكليف الحقوقية الأمريكية بارتياح واضح، لأنها «أكثر توازناً»من الرئيس المستقيل، و«ذات مصداقية عالية، نظراً لموقفها المحايد»!على حد تعبير عدة مصادر سياسية وإعلامية.
خاتمة
أمام النتائج التي استطاعت أن تحققها حكومة العدو وحلفاؤها الدوليون في الضغط على شاباس لتقديم استقالته، وترتيب وصول القاضية الأمريكية لرئاسة اللجنة، تبرز للعلن المحاولات الدؤوبة التي يعمل عليها أعداء الشعب العربي الفلسطيني، في محاولة التزوير والتضليل في مضمون التقرير الدولي الذي أشرف عليه القاضي شاباس، والذي سيعلن عنه في شهر آذار/مارس القادم.
والسؤال الذي يبرز أمامنا: كيف ستتعامل سلطة الحكم الذاتي في رام الله المحتلة والحكومات العربية والصديقة مع كل تلك المحاولات؟ هل تدفعنا تلك «الانتصارات» التي حققها الحلف المعادي في دفع شاباس للاستقالة وتعيين ديفيس، للخوف على ما سيحمله التقرير الموعود؟ هل هناك مايدفعنا للتفاؤل في ظل تجربتنا، فلسطينياً، مع تقرير غولدستون؟ الأسابيع القادمة ستحمل الإجابة.