من أوكرانيا لميزان القوى الجديد أبعد من دليل جنائي..!
عندما تقول لجنة التحقيق الروسية، حول مستجدات حادثة إسقاط طائرة الركاب الماليزية بوينغ 777 في شرق أوكرانيا يوم 17 تموز 2014 ومقتل ركابها جميعاً، إن لديها شهوداً وشهادات مستعدة اللجنة أن تضعها بيد لجنة التحقيق الدولية في حال طلبت الأخيرة ذلك، فهذا يعني أن لدى موسكو ما هو أكبر وأوسع وأكثر اعتداداً مما تداولته وسائل الإعلام من وجود شهادة عسكري أوكراني لجأ للأراضي الروسية ومما نقلته صحيفة روسية عن شخص ما سمع الطيار النقيب "فلان" يرتجف بعدما حط بطائرته سوخوي المقاتلة قائلاً لم تكن الطائرة المقصودة..!
وهذا يعني أن اللجنة الروسية ومن خلفها الحكومة والرئاسة الروسية، التي أعلنت مراراً أنها لن تنجر إلى مواجهة يتمناها الغرب، ستفجر كل ذلك في وجه الطرف الآخر عند اللحظة المطلوبة، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في اليوم الثاني مباشرة عندما قال إن الأدلة الجديدة بشأن تحطم الطائرة الماليزية، والتي نشرت في وسائل الإعلام الروسية، لا يمكن تجاهلها، معرباً عن قناعته بأن الحقيقة ستظهر حتما وإنه سيتعين الرد على «أسئلة واضحة ومحددة» تطرح مرة تلو الأخرى، ومشدداً في الوقت ذاته على أنه لا يمكن حدوث انشقاق بين روسيا وأوكرانيا، «لأن التاريخ يربطنا على مدى قرون» و«لا أتفق مع أننا «فقدنا» أوكرانيا.. ربما هذه المقولة مهمة للأمريكيين لتعزيز موقفهم الرائد في العالم».. وإن «فكرة سعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو بحد ذاتها خطرة على الشعب الأوكراني والأمن الأوربي ولكن يبدو أن بعض الدول الأوربية تريد الحفاظ على المواجهة إلا أن نظرة أوكرانيا إلى روسيا ستكون جيدة بعد انتهاء الأزمة».
أزمة «آمر العمليات» الأمريكي
موسكو، إذاً، والتي عملت بنجاح على إدارة واحتواء كل مفاعيل الأزمة الأوكرانية على حدودها مباشرة، ترى أفقاً لحل الأزمة في أوكرانيا، والتي تظهر فيها الأدلة الجديدة بخصوص إسقاط الطائرة الماليزية، أحد أبرز الوقائع الجديدة التي من شأنها أن تعكس كل السيناريوهات التي تحكمت جزئيا بمسار الأزمة الأوكرانية، من المسارعة إلى اتهام موسكو بداية، إلى العقوبات المتلاحقة، إلى ثبوت إفلاس القوى الفاشية بالوصول بالوضع الأوكراني إلى مبتغاهم الذي كان مخططاً له أن ينتقل بالدومينو إلى الداخل الروسي لحد أن يصل الأمر بتلك القوى إلى التورط في إسقاط طائرة مدنية كانوا يعتقدون أنها طائرة بوتين الرئاسية، أي أن آمر العمليات الأمريكي فشل فشلا ذريعاً وسيتكشف دوره تباعاً..
انعكاسات عامة أيضاً
وهذا بمجمله يعني انهيار المخطط الأمريكي- الأطلسي على نحو متسلسل، من حادثة الطائرة ومستجداتها، إلى الوضع الميداني الجيد في أوكرانيا نسبياً لجهة عدم تفتيتها وإلحاقها بالمعسكر الآخر، إلى الفشل في استجرار الروس عسكرياً، إلى الفشل في افتعال ثورة ملونة في روسيا ذاتها على نمط ميدان كييف، إلى فشل انهيار اقتصادي يقوده انهيار الروبل بسبب حرب تسعير النفط، ذات الحدين، اللذين يطال أحدهما الرقبة الأمريكية ذاتها.
«الأمريكي» مجبر لا بطل..!
وبالإطار الأوسع فإن تحول معظم ملفات المنطقة والعالم نحو الحلحلة لا يجري بفضل أو منّة من واشنطن وإنما هي مضطرة لتنفيس الاحتقان من حولها، وتحسين شروط هجومها المضاد للهجوم الروسي الجاري لحجز المكانة الدولية الملائمة للإحداثيات الجديدة في ميزان القوى الدولي الجديد سياسياً واقتصادياً وعسكريا، حيث يعمل الروس على مدار الساعة على كل الجبهات وفي كل الملفات ويسحبون البساط من تحت واشنطن أو باتوا يشغلون حيزاً منه يكبر أو يصغر حالياً لحين استقرار الميزان الجديد.
ويمكن للمرء أن يلحظ النشاط الدبلوماسي الروسي الحثيث في الملفات المفتوحة دولياً من الأزمة السورية إلى النووي الإيراني مروراً بالوضع اللبناني والفلسطيني والسوداني ناهيك عن ليبيا ومصر وتركيا وحتى السعودية، إن لم نتحدث عن دور روسيا الأساسي في خروج مجموعة «بريكس» بعملة موحدة، مغطاة على قاعدة الذهب، تعد أحد مستلزمات السوق العالمية الموازية، بما فيها نفط دول بريكس ومواردها وسلعها الأخرى، وبما سيعنيه ذلك من تداعيات على الدولار الأمريكي الذي سينحسر ليتلاءم مع الواقع الاقتصادي الأمريكي المتراجع والمأزوم، مع الترجمات السياسية والعسكرية لهذا الأمر.
ويضاف إلى ذلك توسيع منظمة شنغهاي ومجريات حرب الغاز مع أوربا، ضمن استكمال تكوين الفضاء الأوراسي وإجبار أطراف أساسية في أوربا في مقدمتها ألمانيا لأخذ تموضعها الطبيعي في ذلك الفضاء الجيوسياسي الاستراتيجي بما يعنيه ذلك من الانفكاك من التبعية السياسية لواشنطن.
وفي المقابل نجد الأمريكي مجبراً على تنظيم تراجعه تفادياً للانهيار الشامل وعلى هذا الأساس فقط يمكن تفسير رفع واشنطن لعقوباتها الجائرة والقائمة منذ أكثر من نصف قرن عن كوبا مؤخراً، وحديث الرئيس باراك أوباما عن انتهاء العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان.
الأزمة الرأسمالية في مواجهة الاستحقاقات
وهذا يعني أيضاً فأيضاً أن الإدارة الأمريكية اضطرت إلى تنفيذ أجزاء من مخطط هجومها المضاد بدون تسلسل، ولكن فقط ليفشل كل جزء بجزئه، مما يضع الأزمة الرأسمالية العظمى أمام استحقاقاتها الداخلية الحقيقية ما دامت قد فشلت كل محاولات التأريض الخارجية..
وبطبيعة الحال، يطرح هنا السؤال: هل سترفع واشنطن أيديها بالراية البيضاء؟ بالتأكيد لا..! ولكن يبقى أمامها ألاعيب صغيرة بالمفرق، لا أكثر، لأنها تفتقد للحل الشامل. وفي المقابل ستضطر الحكومة الروسية في مواجهتها المفتوحة مع الغرب والأطلسي، وإذا ما أرادت الحفاظ على موقعها العالمي الجديد، لسد كل الثغرات الاقتصادية الاجتماعية ذات المنشأ والطبيعة الليبرالية التي تمس مصالح المواطن الروسي العادي، وهو ما اشار إليه الرئيس فلاديمير بوتين ذاته مؤخراً عندما ألمح إلى وجوب قيام إجراءات اقتصادية شبيهة بالتي اتخذت في 2008.