تعهدوا بالإعمار... وتمسكوا بالحصار!
مع أنها تبدو لعبة، إلا أنهم يريدونها «روليت روسية»، ولكن بست رصاصات وليس برصاصة واحدة، لأن المقصود أن تفضي إلى «نتيجة» واحدة هي موت المستهدف! إن لم يحدث ذلك فسيعيدون اللعبة من جديد!
«مؤتمر المانحين» الذي عقد في القاهرة تحت عنوان «إعمار غزة»، هو اسم «حركي» مستعار، منذ أول مؤتمر حمل الاسم ليغطي الهدف الحقيقي للأموال الممنوحة، سواء في زمن السلم أو زمن الحرب، في الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة...إلخ. و«مؤتمر المانحين» لإعمار غزة، هو الثالث بعد حروب ثلاث شنها الكيان الصهيوني على القطاع، يستحق اسمه الحقيقي: «مؤتمر المانعين»!
لعبة الإعمار وتثبيت التهدئة
ليست هذه المقدمة مدخلاً لموضوع مدرسي في «الإنشاء»، بل هو مقاربة لحقيقة اللعبة التي تمارسها دول أبرز صفاتها عدم الاهتمام بمقولات الأخلاق أو الإنسانية. فأول ما يطرحه عقد المؤتمر على ذهن غير منافق أو مغرض هو: إذا كان هدف المؤتمر إعادة إعمار ما دمرته الحرب الثالثة على غزة، فمن المسؤول عن هذا التدمير، وماذا عن دور «الدول المانحة» فيه؟!
لا يجهل أحد أن «إسرائيل» هي المسؤول المباشر عن التدمير: «لا أحد تحدث من الدول المانحة عن موت أكثر من 2000 طفل وامرأة وشيخ ورجل، وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين مات وسيموت عشرات منهم، والتسبب بإعاقة آلاف آخرين». ولكن ألم يكن في استطاعة الـ 55 دولة التي شاركت في المؤتمر أن تمنع العدوان الإسرائيلي، فتمنع التدمير وتوفر على نفسها الأموال التي ستدفعها؟
لقد خضع قطاع غزة منذ العام 2007 للحصار الشامل، والجميع على علم بمن فرض الحصار ومن أيده، ومن تسبب في عودة الحرب إلى القطاع مرة بعد مرة. معظم الذين تحدثوا في المؤتمر العتيد، تذمروا وأعلنوا عدم استعدادهم لتمويل «إعادة الإعمار» مرة كل سنتين، ألم يكونوا قادرين على منع الحروب وتوفير أموال «إعادة الإعمار» بأقصر وأسهل الطرق: رفع الحصار؟!
هذا الحصار، وتلك الحروب، هل جاءت من فراغ؟ أليس لها جذر تعود إليه؟ أليس الاحتلال وجرائمه، والحصار واحدة منها، هو أصل البلاء من الألف إلى الياء؟! الحقيقة أن هذا لم يغب عن خطباء «المانحين»، فقد تطرقوا إليه وكرروا، ولكن كيف؟ بربط الإعمار بالدعوة إلى استئناف «لعبة» أخرى لا تقل عبثية ولا نفاقاً عن لعبة إعادة الإعمار، ربط الإعمار بـ «تثبيت التهدئة ووقف إطلاق النار وسيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع وعملية الإعمار، واستئناف المفاوضات» بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية!
ليس ذلك فقط، فإشراف السلطة الفلسطينية ولجان الأمم المتحدة على المعابر لا يكفي «لضمان أمن «إسرائيل» وللتأكد أن الأسمنت الداخل إلى غزة لا يستخدم في بناء الأنفاق، لا بد أن يكون ذلك كله تحت مراقبة وإشراف الأجهزة الأمنية وأجهزة الرقابة «الإسرائيلية»! وفي سبيل ضمان ذلك سبقت المؤتمر تفاهمات «إسرائيلية»- أممية، وتفاهمات «إسرائيلية»- أميركية، وتفاهمات «إسرائيلية»- فلسطينية، وتفاهمات «إسرائيلية»- مصرية، وقد تكون هناك تفاهمات «إسرائيلية» مع بعض «الدول المانحة» العربية وغير العربية، وبشكل ثنائي!
بعبارة أوضح، وكما أعلنها وزير الخارجية «الإسرائيلية»، أفيغدور ليبرمان: «بدون تعاون «إسرائيل» وإشراكها في عملية الإعمار، لن يكون إعمار ولن يتحقق تقدم»!! و«التعاون» في المفهوم الإسرائيلي معناه معروف، أي أن يتم كل شيء حسب ما تريد وتقرر الحكومة الإسرائيلية! وأبسط نتائج ذلك أن يذهب جزء مهم من أموال الإعمار للخزينة الإسرائيلية (عندما يتعلق الحديث بالأموال)! إن ذلك ببساطة ومباشرة ودون لف أو دوران يعني استمرار الحصار!
جوهر المؤتمر
وكبوات الفصائل
فكرة عقد المؤتمر كانت نرويجية، وبلسان أحد المسؤولين النرويجيين، كان الغرض من وراء اقتراح عقد المؤتمر التغطية على المسؤولية التي تتحملها الدول الغربية في شن الحرب، والتسبب في الدمار الحاصل! وهذا الغرض هو واحد من أغراض عديدة، يأتي في مقدمتها أخذ المقاومة في غزة رهينة، عبر تثبيب وقف إطلاق النار لاستمرار عملية الإعمار (في حال البدء بها)، وباستغلال أوضاع الغزيين الصعبة. لكن الهدف الأخطر والأهم، هو أن يؤدي ذلك إلى تحقيق الهدف «الإسرائيلي»- الأميركي- الغربي الأول: إضعاف وتحجيم المقاومة، ونزع سلاحها إن أمكن.
ولعله من المضحك المبكي أن نسمع ونقرأ تصريحات لقيادات في فصائل المقاومة لم أفهم كيف صدرت عنهم، لأنها تظهر اتفاقهم من جهة، واتفاقهم قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، مع الأغراض «الإسرائيلية»- الأميركية! فمثلاً، كيف نفهم قول موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، في حوار له مع جريدة «العربي الجديد» التي تصدر في لندن: «عقد المؤتمر أفشل كل أهداف نتنياهو»! وكيف نفهم قول خالد البطش، القيادي البارز في حركة «الجهاد الإسلامي»: «إن استمرار التهدئة مرتبط باستمرار عملية الإعمار وفتح المعابر..»! ألا يعني ذلك الموافقة على كل التفاهمات والترتيبات بل وأغراض المؤتمر، وما يقوله كيري، وكل نجوم مؤتمر القاهرة؟
الرئيس محمود عباس اعتبر المؤتمر ناجحاً جداً، لأنهم تعهدوا بأكثر من خمسة مليارات دولار، وهو طلب أربعة مليارات! وقد سبق لـ«مؤتمر المانحين» لإعادة الإعمار بعد الحرب الثانية العام 2012 أن تعهد بأربعة مليارات لم يدفع منها شيء! وهكذا تكون نتيجة المؤتمر أنهم تعهدوا بالإعمار، وتمسكوا بالحصار. وقد لا يتحقق الإعمار ويستمر الحصار، فتكون الحرب الرابعة في الطريق!