الأزمة الأوكرانية: أوروبا أكبر الخاسرين!
«يؤسفني القول إن الرئيس بوتين تفوق ببراعة على حلف الناتو لإبقائه باب الحوار مفتوحاً، خاصة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل»، تصريح أدلى به السفير الأمريكي لدى حلف الناتو «نيكولاس بيرنز»!
جاء ذلك التصريح بمثابة تأنيب للحلفاء الأوروبيين، على اعتبار أوروبا رأس جسر جيوسياسي يصل أمريكا بأوراسيا منبع الثروات حسب الأدبيات السياسية لمنظري الاستراتيجية الأمريكية ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ما دفع الأوروبيين لمواجهة «سياسية-اقتصادية» مع الجار الروسي، مواجهة أرادتها أمريكا ضمن مشروع «خارطة الحريق» العالمية، دون أي مكاسب حقيقية لأوروبا المنهكة اقتصادياً والتي تحملت أعباء العقوبات العبثية منذ بداية الأزمة الأوكرانية حتى اليوم.
مع نهاية شهر آب الفائت، استطاعت قوات الدفاع الشعبي السيطرة على مدينة «نوفوازوفسك» الحددودية والتي تبعد مئة كيلومتر عن جنوب دوينتسك، إضافة إلى بلدات حدودية مجاورة «أمفروسيفيكا وستاروبشيفي وسافور موهيلا»، كما استطاعت قوات الدفاع الشعبي تثبيت السيطرة على سلافيانسك ودوينتسك بعد معارك عنيفة تركزت في محيط مطار دوينتسك الاستراتيجي، والذي يكشف مناطق شاسعة من الإقليم، هذه السيطرة التي تخللها تقدم لقوات الجيش الأوكراني على أطراف سلافيانسك، والتي لم تمنع قوات الدفاع الشعبي من التقدم نحو ميناء ماريوبول الاستراتيجي والذي يمثل مقر السلطات الحكومية في منطقة دوينتسك، ما أعطى إشارات إنذار لكييف تنبئ بازدياد مساحة المعارك وبالتالي احتمال زيادة خسائرها العسكرية، مع تمدد قوات الدفاع الشعبي باتجاه مناطق جديدة آخرها ماريوبول.
حكومة كييف أمام الأمر الواقع
حذر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق «هنري كسنجر» بلاده، مطلع تموز الفائت من مفاقمة الأزمة الأوكرانية مطالباً صناع القرار بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا، ليتبعه السفير الأمريكي «جاك ماتلوك» بتصريح حذر فيه من «عدم تفهّم المصالح الروسية» في إشارة إلى التعامل مع الملف الأوكراني.
تلك المواقف أثارت حفيظة وزير الخارجية الأوكراني «قسطنطين هريشينكو»، الذي عزل الأزمة الأوكرانية عن الوضع الدولي لأمريكا في المنطقة، مؤكداً على سياسة الحكومة الأوكرانية في تعاملها مع مدن شرق أوكرانيا، وإن بدا تصريح وزير الخارجية خارج سرب التصريحات الرسمية الأوكرانية من حيث الشكل، فإنه يشير إلى مخاوف حقيقية من تثبيت ميزان القوى الجديد في المنطقة الأوراسية، والتي أصبح فيها حوض الدونباس، كونفدراليات مستقلة كأمر واقع على الحكومة الأوكرانية التعامل معه سياسياً، وتحديداً بعد البرود الذي أصاب الحكومات الأوروبية في تعاملها مع الملف الأوكراني إثر ظهورها كأكبر الخاسرين في الأزمة، لتعبر عن خسارتها باقتصار بيان حلف الناتو في قمته الأخيرة على حق أوكرانيا باسترداد كامل سيادتها على أراضيها.
تبع ذلك في غضون أيام إعلان التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الحكومة وقوات الدفاع الشعبي شرق البلاد، ومصادقة البرلمان الأوكراني في جلسة خاصة «16 أيلول» على قانون يمنح مناطق شرق البلاد «وضعاً خاصاً» ويجري العمل به لمدة ثلاث سنوات، كما نص القرار على إجراء انتخابات محلية استثنائية في هذه المناطق قبل السابع من كانون أول المقبل، ومن جهة أخرى وافق البرلمان الأوكراني على قانون عفو عن المشاركين في معارك دوينتسك ولوغانسك.
أوروبا تهتز أمام عقوباتها
تزامن إصدار قانون منح وضع خاص لمناطق شرق البلاد، مع مصادقة البرلمان الأوكراني على اتفاقية الشراكة الموقعة مع الاتحاد الأوروبي بشقيها السياسي والاقتصادي، وفيما بدا ذلك مكسباً أوروبياً مع وقف التنفيذ، فموسكو لن تسمح بتمرير قانون الشراكة الذي كان الفتيل الذي أشعل الصراع وجاء عن الخارجية الروسية: "إن موسكو تتوقع تأجيل تطبيق الاتفاقية بما يضمن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الثاني عشر من الشهر الحالي"، أي أن موسكو فعلياً ستعمل على تعديل الاتفاق، أما الغرب فمازال يناور متجنباً الرضوخ لفكرة أن أي اتفاق بشأن أوكرانيا بات توافقياً مع الروس بالضرورة.
على الصعيد ذاته تفاقمت أزمة الغرب الذي بدأ يحصد نتائج الأزمة الأوكرانية، حيث توقع خبراء «دانسكه بنك» أكبر مصارف الدانمارك أن تلغي دول الاتحاد الأوروبي في غضون ثلاثة أشهر العقوبات المفروضة على روسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية، حيث أشارت دراسة أجراها خبراء المصرف إلى أن الجانبين لن يستطيعا تحمل التبعات الاقتصادية للعقوبات المتبادلة، وأن تجارة موارد الطاقة هي الأكثر تضرراً، في حين أن العقوبات الأوروبية لن يكون لها تأثير ملموس على الوضع السياسي الراهن لروسيا، ولاسيما في ظل تعزيز العلاقات الروسية مع دول آسيا وأمريكا اللاتينية، كما قدرت روسيا الخسائر الأوروبية نتيجة الحصار بـ40 مليار دولار حتى الآن. وتشير الدراسات إلى انكماش الاقتصاد الأوروبي بنسبة «0.2»% في الفترة ما بين آب وحزيران بعد نمو بلغ «0.7»% في الربع الأول من العام الحالي، وسط ترجيح وزارة المالية الألمانية تأثير العقوبات على روسيا والأزمة الأوكرانية، كعوامل أساسية أدت إلى انخفاض الإنتاج على مستوى القارة.
كما أن تهديد روسيا بإغلاق مجالها الجوي أمام طائرات الشحن الأوروبية أثار مخاوف جدية من انهيارات كبيرة في اقتصادات دول تتصدرها بريطانيا وفرنسا في مجال استخدام الممرات الجوية السيبيرية، والتي تختصر مسافة «4000» كم من مسافة خط الالتفاف حول روسيا، وهو ما يوفر ما لا يقل عن «30 ألف دولار» لكل رحلة طيران، في حين علل الاتحاد الدولي للنقل الجوي «اياتا» انخفاض حجوم الشحن البري بضعف اقتصادات الدول الصناعية الكبرى والعقوبات المفروضة أوروبياً على روسيا.
إن الأمر الواقع الذي فرضه الروس على الغرب هو ترجمة للمكاسب السياسية التي حصل عليها بعد صمود المناطق الشرقية في أوكرانيا وإنزالها خسائر كبرى بصفوف قوات الحكومة الأوكرانية وظهور إمكانية تقدمها العسكري وقلب الموازيين على الأرض، بالإضافة إلى فشل العقوبات الاقتصادية في ردع روسيا عن تأمين مجالها الحيوي في أوروبا الشرقية. وإن كل ذلك كفيل بتفعيل التناقضات بين أوروبا والولايات المتحدة التي مازالت تصر على المقامرة بالمصالح الأوربية لحساب تعويضها عن خسائرها الدولية الأخرى.