قراءة أولية في الموقف المصري من العدوان الصهيوني على غزة
لا شك أن الموقف المصري من الحرب الصهيونية على قطاع غزة كان أهم المشاهد التي تلوكها الألسن خلال أسابيع العدوان المتعاقبة.
واليوم وبعد انتهاء الهدنة المعلنة في 5/8/2014 التي تم الاتفاق عليها في القاهرة تعود الأنظار إلى مصر خاصة بعد عودة الكيان الصهيوني إلى اعتداءاته على الشعب الفلسطيني في غزة، وإعلان فصائل المقاومة جاهزيتها لردع العدوان حتى الوصول إلى تحقيق كامل مطالبها برفع الحصار بكافة أشكاله وتحرير الأسرى في سجون الكيان الغاصب.
في الموقف التركي-القطري
بداية علينا أن نسجل أن مناقشة الموقف المصري من القضية الفلسطينية على أرضية المقارنة بين «مصر- الإخوان أو مبارك» مقابل «مصر- السيسي» هو شيء من التسطيح والإنفعالية والتضليل إنجر إليه البعض دونما انتباه، وساهمت القنوات الراعية للإخوان وللفلول في تكريس هذه الرؤى. لقد بنت تلك الرؤى أفكارها على أن ما يجري في غزة من عدوان هو حدث تقليدي متكرر فيه «الفلسطيني/الضحية» يواجه «الصهيوني/الجلاد» بانعزال تام عن كل ما جري ويجري في المنطقة، وأن هذا الحدث الجاري على بقعة جغرافية محاصرة مجاورة لمصر وفيها شعب مضطهد يبنغي التعاطف معه وإسناده، وإن التخلي عنه بهذه الظروف هو خيانة عظمى. وكون هذا الأمر فيه شيء من الصحة وكثير من اللغط استسهلت هذه الرؤى المقارنة بين الموقف المصري والموقف التركي- القطري الذي استثمر التراخي المصري في الدفاع عن غزة وأقام ضجة إعلامية غير مسبوقة «نصرة» لغزة على حد زعمه!.
لقد قامت هذه الضجة على الأداء الإعلامي لكلا الطرفين من جهة وعلى المبادرات السياسية لوقف العدوان، فجاءت المبادرة «القطرية-التركية» أعلى سقفاً من المبادرة المصرية، إلا أن الموقف القطري-التركي لم يصل إلى حدود قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والسياسية ذات الطابع الاستراتيجي. ومن البديهي الاستنتاج من هذا السلوك وغيره أن تركيا وقطر لا تريان في «إسرائيل» خطراً على أمنهما القومي ما يستدعي تحركاً استراتيجياً، ولا تريان أن هذا العدوان جزء من السيناريو الكامل المشغول لإحراق المنطقة الذي يسهمان فيه، بل تجدان العداون على غزة حدثاً هاماً للاستثمار التكتيكي لرفع وزنهما الإقليمي على حساب مصر فعلياً وليس على حساب وجود الكيان الصهيوني. يستند الموقف القطري-التركي إلى اختزال غزة والمقاومة بحماس واختزال حماس بالإخوان المسلمين، وهو ذات موقف «الفلول»، وفي ذلك إنهاء استراتيجي للمشروع المقاوم من جهة، وابتعاد عن مواجهة المشروع الصهيوني المتمترس بعلاقاته العميقة مع قطر وتركيا وعلاقاته العضوية مع الولايات المتحدة التي لا يرى الإخوان فيها إلا صديقاً حميماً حتى اللحظة.
فقدان الأمل من مصر!!
إن المواقف الأخرى التي انتقدت الموقف المصري من موقع المعوّل عليه في هذه القضية وقعت أيضاً عن حسن نية في خطأ «القراءة الأخلاقية» المبنية على رؤية العلاقة الأخوية المصرية-الغزاوية والمعولة على الحالة الثورية التي عاشتها مصر في السنوات الفائتة، مما اضطرها للقنوت سريعاً من الدور المصري مترحمة على الثورتين اللتين أوصلتا السيسي للحكم لتجزم بعودة الفلول إلى سدة الحكم!.
لقد كان هذا الموقف محقاً في التعويل والبحث عن دور مصري جديد ومحقاً في الإنزعاج مما حصل، إلا أنه كان متسرعاً في الحكم على الوضع المصري الحالي وبسيطاً في قراءة تعقيدات الأوضاع هناك. فيقوم هذا الرأي على ثنائية إما «الثورة أو الفلول»، حيث لم ير هذا الرأي أن النظام المصري المبني على اتفاقية كامب ديفيد لم يتغير جذرياً حتى اللحظة رغم الثورتين اللتين فتحا الباب قوياً للتغيير، وأن التوازنات الحالية التي أفضت إلى وصول قيادة جديدة تخضع للدور القديم والجديد، التقدمي والرجعي، الإصلاحي والثوري، وفي القديم دور واضح للفلول وفي الجديد تحالف إقليمي مع السعودية لضرب الإخوان وانعاش الاقتصاد المصري الميت، وفي الاثنين معاً توجد مصلحة قوى رأس المال وكبار الفاسدين المتغولين بجهاز الدولة والمهيمنين على الاقتصاد والمجتمع. وعلى النقيض منهما هنالك الانحياز للشعب في ثوريته وتغير في العلاقات الدولية المصرية خلافاً للرغبة الأمريكية ووضع مهمة استعادة الأمن القومي كضرورة ملحة ووقوف واضح ضد الهجمة الفاشية على المنطقة.
إن كل ذلك يعني أن الحركة المصرية الثورية التي أفضت إلى توازنات جديدة داخل النظام المصري وجهاز الدولة لم تنه أعمالها بعد، وأن التوازنات الحالية داخل النظام لم تستقر وإن الاستعجال على مواقف جذرية في اللحظة الراهنة هو ضرورة ينبغي النضال لأجلها لا الوقوف والقنوت منها. كما أن هذا الموقف لا يرى السلوك الحالي المستفز للدعاية الإخوانية الدولية والتي انغمس فيها جزء هام من قيادة حماس، وإن كنا نرفض تبرير أي ردة فعل ضيقة الأفق من قبل الإدارة المصرية على هذه المواقف، خاصة تلك التي انبنت على المطابقة بين حماس والإخوان وغزة والمقاومة، إلا أنه يجب الانتباه لكل التفاصيل لرسم صورة موضوعية.
شيء من الحقيقة!
إن الجديد التي أنتجته الثورتان المصريتان هو عودة «مشروع الأمن القومي المصري» بكل مضامينه إلى الواجهة لا كخيار للبحث بل كضرورة لبقاء مصر، فدونه لا بقاء لمصر في السنوات القادمة. إن إدارة الثورتين المصريتين السابقتين من قبل الجيش المصري انبنت على هذه المقولة، فإما استعادة الأمن القومي المصري أو نهاية مصر، ابتداء بالعمل على حل التناقضات الداخلية الاقتصادية الاجتماعية وصولاً إلى الأبعاد الجيوسياسية للدور المصري، وعلى هذا كان موقف الجيش حاسماً في الداخل بالانحياز للشعب في ثورتيه، وحاسماً تجاه الإخوان الذين شكلوا خطراً على الأمن القومي بسلوكهم وبرنامجهم في الداخل وتحالفاتهم الإقليمية والدولية في الخارج. كما كان الموقف واضحاً من تصاعد خطر القوى الفاشية في المنطقة كأداة مهددة للأمن القومي المصري، ويأتي التوجه المصري نحو موسكو خلافاً للإرداة الأمريكية كجزء من خلق الأرضية المادية المناسبة لاستعادة الأمن القومي. أما حول الموقف من غزة فالكل يعرف، بما فيهم قوى المقاومة الفلسطينية، أن هذا الملف وبكل الحقب ظل ممسوكاً من قبل جهاز الدولة المصري وتحديداً الجيش، كونه جزءاً من الأمن القومي المصري، وهو الذي رُهن لعقود لظروف الواقع المصري المعروفة والتي بدأت بالتغير. وطالما أن الإدارة القائمة رغم كل تناقضاتها تسعى لملاقاة هذا الظرف لم يعد الإكتفاء بالحد الأدنى تجاه غزة منطقياً خاصة وأن الهجمة الصهيونية هي جزء من الهجمة الفاشية العامة على المنطقة التي يستنفر لمواجهتها الجانب المصري.
ضرورة الانعطاف
وهشاشة البنية المواجهة!
لقد تقلص الأمن القومي المصري منذ عهد السادات بتوقيع اتفاق كامب ديفيد وصولاً إلى حضيض الإخوان الذين رحبوا وطالبوا بالتدخلات الأمريكية في المنطقة في ليبيا وسورية وهو الأمر الذي رفضه مبارك همساً إبان الغزو الأمريكي للعراق، رغم كل ذلك ظل الجيش ممسكاً بورقة غزة، وإن بالحد الأدنى ولا مجال هنا للتشدق بالحديث عن تمايز مواقف القوى الحاكمة لمصر حول غزة فالقضية ظلت بيد الجيش طوال الوقت. ومع معاناة مصر اليوم خطراً وجودياً بسبب التردي بأمنها القومي، فإن المشروع المصري الجديد لا يمكن أن يستمر دون حلها، والفرصة كانت ومازالت مواتية لنهوض استراتيجي بالوضع المصري العام انطلاقاً من غزة «الشريان الأبهر» للأمن القومي، وإن هذه الفرص لا تتكرر كثيراً، وإن ما سيق من تبريرات رسمية لهذا الموقف كان هزيلاً وسطحياً.
لم يحسم الموقف المصري بعد، بل على العكس عاد إلى زمام المبادرة عندما استقبل الوفد الفلسطيني المفاوض، وأعلن تبنيه لورقة الفصائل التي صاغتها المقاومة على الأرض، وتحرر إلى حد ما من عقلية المطابقة بين حماس وغزة، ومن اختزال المقاومة بحماس، والتي تسعى أطراف إقليمية لإرسائها لثني مصر عن دورها المطلوب والضروري. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن البنية المصرية الحالية القائمة على توازنات النظام بقديمه وجديده بتحالفاته الإقليمية والدولية الجديدة، تعاني هشاشة أمام ضرورات التصدي لمهمة الأمن القومي، والتي عرتها الاعتداءات الصهيونية على غزة، مما يعني أن هذه المهمة تستدعي تغييرات عميقة ونوعية في البنية المصرية القائمة.
إن تقدم الموقف المصري أكثر للوقوف إلى جانب المقاومة ومطالبها مطلوب وضروري اليوم أكثر من قبل، لا لإحقاق الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني بالمقاومة، وليس التزاماً مصرياً بقضية العرب والأشقاء المركزية وحسب، بل استعادة لأمنها القومي ودورها الإقليمي الذي ميز حقبة الثورتين عن ما سبقها، والذي يعد ضرورة للدفاع عن وجود مصر موحدة ومستقلة، وإن هذا الخيار تفرضه الضرورة التاريخية والتخلي عن هذه المهمة ومقتضياتها من قبل الإدارة الحالية، يعني رجعيتها بالضرورة والتي ستتهتك سريعاً بفعل التطور الطبيعي لمجرى الأحداث فيما لو بقيت على حالها.