التخريب والعلاقات الأمريكية الإيرانية
دون تسليط الضوء على النشاطات السرية الأمرو- إسرائيلية لزعزعة استقرار إيران وتخريب برنامجها النووي لا يستقيم الجدل حول العقوبات الأمريكية- الدولية المفروضة على طهران، والتحضير لعمل عسكري ضدها. كما لا يستقيم فهم آثارها على العلاقات الأمريكية الإيرانية. فقد ساهمت تلك النشاطات، مرحلياً، بإبطاء تقدم إيران في المجال النووي، وعرقلت، استراتيجياً، حل النزاع القائم بين البلدين.
ترجمة وإعداد: موفق إسماعيل
البرنامج
في عام 1953، أثناء تخطيط الولايات المتحدة للإطاحة برئيس الوزراء الإيراني، محمد مصدق، حذر عميل الـ«سي آي إي»، روجر غويران، من تأثير العملية سلباً على المصالح الأمريكية، على المدى الزمني الطويل، وإلى دفع إيران نحو اعتبار الولايات المتحدة مؤيدة لـ«الاستعمار الأنجلو- فرنسي». فسارعت وكالة المخابرات المركزية إلى طرد غويران بسبب موقفه المعارض، وأكملت تنفيذ خططها، وثبتت بالنتيجة صحة توقعاته بعدما أتت ثورة عام 1979 الإسلامية بزعيم خلع على الولايات المتحدة لقب الشيطان الأكبر، وأسس لحكم شرعي قائم دستورياً على رفض كافة أشكال الهيمنة ومقاومة القوى العظمى.
وخلال أزمة الرهائن، لم توافق إيران على إطلاق سراح 52 أمريكياً محتجزين لديها إلا بعد أن تعهدت الولايات المتحدة بعدم التدخل في شؤون إيران، حسبما ورد في اتفاقية الجزائر، عام 1981: «من الآن وصاعداً ستتبع الولايات المتحدة سياسة عدم التدخل في شؤون إيران الداخلية، بشكل مباشر أو غير مباشر، سياسياً أو عسكرياً».
وعلى أية حال، لم تلتزم الولايات المتحدة بهذا الاتفاق طويلاً، ففي عام 1995 كشفت وسائل الإعلام الأمريكية عن رصد وكالة المخابرات المركزية مبلغ 18 مليون دولار لتنفيذ خطط سرية بهدف زعزعة الاستقرار في إيران. الأمر الذي عزز شكوك إيران تجاه الشيطان الأكبر، ودفع وزير الخارجية الإيراني إلى وصف السياسة الأمريكية بأنها «ليست إلا دعماً سافراً لإرهاب الدولة»، كما وصف أحد نواب البرلمان الإيراني الحكومة الأمريكية بأنها «حكومة مارقة لا يختلف منطقها بشيء عن منطق جنكيز خان وهتلر».
كما كانت العمليات السرية عاملاً من عوامل انهيار مفاوضات عام 2005، بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي. فقبل عام واحد من بدء المفاوضات كانت العلاقات مع طهران تبدو واعدة، بعد أن وقّعت إيران على معاهدة باريس التي تتعهد فيها «بعدم السعي لامتلاك أسلحة نووية»، ونفذت طوعياً «البروتوكول الإضافي» للوكالة الدولية للطاقة الذرية، علاوة على تجميدها أنشطة تخصيب اليورانيوم طوعاً.
واتفقت الأطراف الموقعة على المعاهدة على متابعة التفاوض وصولاً إلى صيغة اتفاق يشمل «التزامات ثابتة في الشؤون المتعلقة بالأمن»، إلى جانب التعاون على الصعيدين النووي والاقتصادي. وكان أن أعلنت إيران عن رغبتها بالحصول على ضمانات لتنفيذ جميع الأطراف للضمانات الأمنية الواردة في تعهدات مجلس الأمن الدولي، والقاضية بمنع «أي هجوم أو تخريب أو تهديد، مباشر أو غير مباشر، ضد المنشآت النووية الإيرانية».
خرق الاتفاقات
لكن نشاطات الولايات المتحدة في منتصف العقد الأول أثبتت مخاوف طهران. إذ تعاونت واشنطن مع «مجاهدي خلق» في تنفيذ عمليات تسلل عبر الحدود لجمع معلومات عن البرنامج النووي الإيراني؛ وساعدت تنظيم «جند اللـه» الإرهابي المتمركز بباكستان، على تنفيذ عمليات ضد أهداف إيرانية؛ كما أقامت «بنية تحتية سرية» داخل إيران للاتصال بالمنشقين الإيرانيين. وفي عام 2005، صادق الكونغرس الأمريكي على تخصيص ثلاثة ملايين دولار لتمويل برنامج «تطوير الديمقراطية وأوضاع حقوق الإنسان» في إيران، الأمر الذي وصفه سفير طهران بالأمم المتحدة بأنه «خرق واضح لاتفاقية الجزائر».
وفي نهاية الأمر، رفض الأوربيون مطالب طهران، وعرضوا عليها القبول بالضمانات الأمنية الدنيا. فأدركت إيران أن الأوروبيين «لا ينوون، أو لا يستطيعون، تثبيت التزامات تتعلق بأمنها»، وأوقفت بالتالي تعاونها النووي والاقتصادي، وعادت لتخصيب اليورانيوم من جديد. وحالما بدأ مجلس الأمن الدولي يهدد بفرض العقوبات، تكاثرت الأخبار المنقولة عن تصعيد العمليات السرية.
فعندما مات عالم الذرة الإيراني، أردشير حسانبور، في ظروف غامضة، عام 2007، نقلت التايمز عن بعض المصادر أن الموساد الإسرائيلي هو الذي نفذ عملية اغتياله. وفي العام التالي وقّع جورج بوش على قرار يتضمن خطة تشارك فيها وكالة المخابرات المركزية «لشن حملة إعلامية ممنهجة، تبث من خلالها معلومات مضللة عن العملة الإيرانية والتلاعب بها»، حسبما نقلته وكالة «إي بي سي نيوز».
وفي أوائل عام 2009، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن بوش «عزز التعاون المخابراتي» مع إسرائيل، وصادق على تنفيذ برنامج سري «يستهدف كافة مجالات البنى التحتية الصناعية التي يقوم عليها البرنامج النووي الإيراني»، ورثته لاحقاً إدارة أوباما، الذي لم يكن قد أكمل شهره الرئاسي الأول حينما ذكرت صحيفة تلغراف البريطانية أن إسرائيل «تجند عناصر ضاربة، ومخربة، ومدراء شركات، وعملاء مزدوجين لتقويض مشاريع إنتاج الأسلحة» الإيرانية.
كما ذكرت وكالة رويترز أن إسرائيل «خططت لعمليات تستهدف علماء ذرة إيرانيين برسائل مفخخة وطرود مسممة». وحين تعرضت الكمبيوترات الإيرانية لهجوم فيروسي، مؤخراً، تحدثت «نيويورك تايمز» عن احتمال تورط الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن برنامج بوش السري «تم إطلاقه فور مباشرة أوباما مهامه الرئاسية».
الخيارات المُـرّة
عرضت إدارة أوباما على إيران «خياراً قاسياً». فإما الموافقة على شروط الغرب، وبالتالي الانضمام إلى «المجموعة الدولية»، أو «تلقي المزيد من الضغوط والعزل». وقابلت طهران الخيارين بالسخرية.
أما بالنسبة «للضغوط والعزل» فقد أعرب الرئيس الإيراني عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تشنا هجوماً عسكرياً على بلاده. (وهو محق، نظراً إلى أن إدارة أوباما أقنعت إسرائيل بأن الخطر النووي الإيراني ليس وشيكاً). كما أكد أحمدي نجاد أن «العقوبات لا تهمنا»، بل «شجعتنا على المضي قدماً نحو تحقيق أهدافنا الاقتصادية». وما زال صدى هذه التصريحات يتردد في إيران.
أما بالنسبة للانضمام إلى «المجموعة الدولية»، فلا ترى إيران مجتمعاً ترغب الانضمام إليه. بل ترى «إدارة عنصرية وغير إنسانية للعالم»، وبما أن أهداف أسياد العبيد هي ذاتها أهداف المستعمرين الجدد فالنظام العالمي «يحتاج إلى تدقيق وإعادة النظر فيه»، حسب آخر خطاب ألقاه الرئيس نجاد في اجتماع الأمم المتحدة. ولهذا السبب تحديداً تسعى إيران إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي والتخلص من الأسلحة النووية، تحت شعار «حق الطاقة النووية للجميع، ولا حق لأحد بامتلاك السلاح النووي».
نهايةً، ما زال ممكناً حل النزاع الأمريكي الإيراني، خاصة وأن كلا الطرفين أعرب عن استعداده للحوار. ورغم أن الولايات المتحدة ترغب بإيقاف عمليات التخصيب كلياً، ما زال ممكناً، إلى حد ما، أن يتلاقى الطرفان في منتصف المسافة بينهما. غير أن العمليات السرية كفيلة بتقويض هذه الإمكانية.
وكما حدث في عام 1953، تغامر الولايات المتحدة بخسارة مصالحها، استراتيجياً، من أجل مكاسب آنية مؤقتة، من خلال إصرارها على خيار فرض العقوبات. فإذا ما استمر قلق إيران من تزايد الأنشطة الأمريكية السرية، ولم تثبت الولايات المتحدة لإيران أن التسوية ممكنة، فلن تقدِم طهران على عقد أي نوع من الاتفاقات.
• كاتب مسرحي، ومعلق مختص بشؤون السياسة الخارجية الأمريكية