«خريف الغضب» الفلسطيني

«خريف الغضب» الفلسطيني

تعيش العديد من مدن وبلدات الضفة الفلسطينية المحتلة منذ عدة أيام، في عين العاصفة. حركة احتجاجات واسعة تشهدها المراكز التجارية، وساحات وشوارع المدن المحتلة، ومن ضمنها، القدس. صرخات الغضب التي عبّرتعنها المظاهرات الصاخبة، الناقمة على السياسات الاقتصادية الكارثية، جاءت على خلفية إرتفاع أسعار المحروقات، الشرارة التي أشعلت النار في هشيم الواقع المتردي، كانت إعادةً لتسليط الضوء على الواقع الإقتصادي /الاجتماعي الذي يعاني منه المواطن الفلسطيني. فقد أدت هذه الزيادة لارتفاع جديد في أسعار المواد الأساسية التي يحتاجها المواطن، الذي يعاني بالأساس من أزمات متلاحقة، دفعت ببعضهم لمحاولة حرق نفسه، كتعبير بـ «النار» عن فقدان الأمل بالخروج من الفاقة والعوز.

جاء الارتفاع الجديد في الأسعار، ليزيل الغشاوة عن عيون البعض، ممن راهنوا على قدرة السلطة وحكوماتها المتعددة على تحسين شروط الحياة الاقتصادية للمواطنين. لكن ماتكشفه الزيادة الواضحة في معدلات الفقروالبطالة، تلقي بالضوء على الواقع البائس الذي تكشفه نسبة البطالة في الضفة 20 في المائة وفي قطاع غزة 30 في المائة، ونسبة معدلات الفقر 47 في المائة بالقطاع، بينما تتجاوز قليلاً النسبة 30 في المائة بالضفة. كل ذلكيأتي مضافاً للتضخم والمحسوبية والواسطة، التي تتوضح في الزيادة المضطردة لعدد الموظفين، الذي تجاوز 180 ألفاً. مع العلم أن  النفقات تصل إلى 54 في المائة من الموازنة العامة، والباقي للرواتب، خصوصاً على الأمن،التي تصل إلى أكثر من 30 في المائة، والتي تأتي في محصلتها لخدمة الاحتلال، من خلال التنسيق الأمني، سيء الذكر. كما أن قطاع الموظفين في مختلف الوظائف المدنية/ الخدمية، يعيش قلقاً دائماً من تأخر الراتب أوتعرضه لحسومات كبيرة، مما ينعكس على القدرة الشرائية للمواطن، الذي أخذته سياسات الإقراض البنكية لكارثة كبرى، تتجلى في «الرهنية للبنوك» مما أدى لأوضاع اجتماعية، مأزومة ومحتقنة، على الدوام .

إن أي متابع لمسار الأزمة الإقتصادية، القديمة/الجديدة، والمتكررة على الدوام، يجد نفسه، رغم امتلاكه لمعايير التحليل الاقتصادي، المنطلق من الجداول والأرقام، أمام حقيقة لاتقبل التحايل على التوصيف الموضوعي لطبيعةتعامل حكومات السلطة معها . لقد استطاعت تلك الحكومات المتعاقبة أن تتجاوز الأزمات المتتالية من خلال « تحسن الأداء» في «إدارة الأزمة» وليس في إنهائها . ولهذا لجأت تلك الحكومات للمساعدات وسياسة الاقتراض منالبنوك، الذي وصل قبل بضعة أشهر لحده الأقصى .هذه الأزمة الإقتصادية، المتدحرجة منذ عقد ونيف، كانت نتاج الاتفاق سيء الصيت «اتفاق باريس الاقتصادي» الذي وقع في 29 / 4 / 1994. الذي جاء بمحصلته النهائية،ليدمر أية محاولات لبناء إقتصاد وطني/مجتمعي، يقوم على تشجيع الاستثمار في الزراعة والصناعة والتعليم. هذا الاتفاق ربط آليات عمل السوق الاقتصادية الفلسطينية بآليات سوق كيان العدو، والموافقة على القوانين واللوائحالتي تضبط العلاقة الجمركية بين السلطة والكيان الاحتلالي/الاستعماري.

عدد من مسؤولي السلطة الاقتصاديين بدأ يتلمس في اتفاقية باريس والعلاقة مع كيان العدو، إجحافاً كبيراً، وانزعاجاً أكبر، من خلال تعمد حكومات العدو المتعاقبة حجز أموال الضرائب التي نصت الاتفاقية على أن تقوم هيبجبايتها ومن ثم نقلها للسلطة الفلسطينية بعد أن تحصل على رسوم 3 في المائة منها. إذ أن حكومة العدو تعمد إلى حجز هذه الأموال في عدة مناسبات كان أبرزها في العام 2006 أثر فوز (حماس) في الانتخابات التشريعية،وفي أيار/مايو الماضي رداً على توقيع اتفاق «المصالحة» الفلسطينية. وفي هذا المجال، يقول الأكاديمي المختص في علم الاقتصاد في مدينة رام الله المحتلة «نصر عبد الكريم»: إن هذا الأمر أعطى «اسرائيل» فرصة التحكمفي نحو 70 في المائة من الإيرادات المحلية التي يمكن أن تجبيها السلطة الفلسطينية، ما يعني ممارسة «الابتزاز» بشأنها متى أرادت ذلك. وفي المجال ذاته، يقول مدير عام المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية وإعادة الأعمار(بكدار) محمد اشتيه، إن»اتفاق باريس نص على قضية رئيسية وهي حرية الحركة للتجارة والعمال والبضائع باتجاهين، لكن ماتقوم به «إسرائيل» من إجراءات جعل حركة التجارة باتجاه واحد.

مضيفاً لقد بلغت واردات البضائع «الاسرائيلية» للسوق الفلسطينية أكثر من أربعة مليارات دولار سنويا ،بينما لا تدخل السوق «الإسرائيلية» من المنتجات الفلسطينية سوى 300 مليون دولار ما يخل بالغلاف الجمركيالموحد بين الجانبين.

جاءت الأزمات المتلاحقة على المسار الاقتصادي، لتحول الوعد الذي أطلقه، سلام  فياض«إن عام 2013 سيكون عام الاستغناء عن المساعدات المالية الخارجية» إلى سراب. هذا الوهم الذي انكشف على أرض الواقع، كشفتزيفه سياسات السلطة الاقتصادية، التي  ركزت عليها هتافات المتظاهرين، الذين توهم «بعضهم» أن سبب الأزمة هو رئيس وزراء السلطة! وفي هذا تحريف مقصود لتشخيص الأزمة، التي هي، أبعد من الأشخاص والأسماء،لكونها أزمة برنامج وسياسات وارتهانات . إن تصويب الشعار/ الهدف، باتجاه التركيز على اسقاط الاتفاقات المذلة في «أوسلو وباريس» والتخلص من نتائجهما، هو بداية الولوج نحو البرنامج الوطني/ الاقتصادي/الاجتماعي،الذي يوحد جهود أبناء وبنات الشعب في مواجهة الاحتلال وإفرازاته، ويحرم«البعض» الذين يخوضون «معاركهم» في الامتيازات، ومستويات الارتباط والتبعية مع الخارج، من ركوب موجة النضالات الوطنية/المطلبية.

إن الحكومة الحالية ليست ملكية خاصة لسلام فياض ولبرنامجه الخاص!. إنها، وكما قال رئيس السلطة محمود عباس من القاهرة قبل أيام قليلة «إنها حكومتنا وتلتزم بقراراتنا وتعليماتنا، ولذلك لايوجد فصل هنا بين الحكومةوالسلطة أو رئيسها، فنحن واحد. الحكومة، أنا من يعينها وأنا من يوجهها، وبالتالي أي مسؤولية تقع على عاتقي وليس على عاتق شخص آخر». أمام هذه الحقيقة الصارخة، هل يحتاج المنتفضون في رام الله والخليل والقدسوبيت لحم و... لهدف أكثر وضوحاً ، يتوجب النضال لإسقاطه والإطاحة ببرنامجه. إن عودة سريعة للشعارات الثورية / الواقعية / الجذرية التي رفعها قبل بضعة أسابيع شباب وشابات الضفة في ساحة/ دوار المنارة في رام اللهالمحتلة وهم يرفضون زيارة السفاح  موفاز يجب أن تشكل الأساس والإطار الذي يحكم شعارات وأهداف حركات الاحتجاج الراهنة والمستقبلية.

إن ماتعانيه جماهير الشعب الفلسطيني، هو نتيجة أزمة وطنية، وكل تعبيراتها الاقتصادية والاجتماعية، هي تكثيف صارخ عنها. إن الاحتلال الصهيوني، والتسويات المذلة التي وقعها البعض معه، هي، الكارثة. وإعادة تثويرالمشروع الوطني التحرري وتطوير أدوات تحقيقه، هي الكفيلة بالمواجهة وإسقاط سلطة أوسلو، سلطة التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية.