روسيا طموحات العودة ومنغصات الداخل
في ظل التجاذب الكبير في الحدث السوري يبرز التوازن الدولي الجديد بشكل واضح، عنوان هذا التوازن الفاقع هو الدور الروسي والفيتو المزدوج لثلاث مرات متتالية في محاولة لتثبيت مواقع دفاعية هامة للقوى الصاعدة، وفيما يختلف الكثير من المحللين حول تقدير مدى إمكانيات هذا الدور على لعب دور مناهض للدور الغربي على جبهات أخرى غير الجبهة السورية إن صح التعبير، يشكك الكثيرون بقدرة الروس على الاستمرار مطولاً حتى في الملف السوري وفي هذا الإطار نجد أن معظم التحليلات تنطلق من تخمينات معينة عن الإمكانيات الذاتية لكل من روسيا والصين أكثر من انتباهها للتراجع المضطرد للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
لكن تصريحات المسؤولين الروس تبدو حاسمة و حازمة رغم محاولات البعض التشويش عليها، فمؤخراً أبلغ الرئيس الروسي فلاديميربوتين المسؤولين المعنيين بالأزمة السورية بمن فيهم الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند، كما رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أنّ روسيا لا تناور في ما يتعلق بمصالحها الاستراتيجية والحيوية لا في سورية ولا في منطقة الشرق الأوسط عموماً.
لايبدو أن هذه المواقف هي خطابات إعلامية فقد استدعت اجراءات روسية فعلية وهو ماترجمه الروس من خلال تعزيز الأسطول الروسي الرابض في القاعدة الروسية في طرطوس، وهو مايؤكد على عزم موسكو إرساء المعادلة التي أطلقها وزير الخارجية سيرغي لافروف وخلاصتها ان النظام العالمي الجديد يبدأ من سورية.
في المقابل ومع تعاظم الدور الروسي خاصة في الملف السوري تبقى عين الواقع ناظرة إلى الدولة الروسية وإمكاناتها الحقيقية خاصة من حيث أوضاعها الداخلية سواء الاقتصادية الاجتماعية أم السياسية، فمعدلات النمو الاقتصادية والتي بلغت حوالي 5% مؤخراً وإن بدت جيدة بالمقارنة مع بقية دول العالم فهي تتطلب إلى رفع بوتيرة متصاعدة لتكافئ الحاجات الاقتصادية الناشئة عن الدور السياسي المتصاعد وخاصة بعد دخول روسيا لمنظمة التجارة العالمية مما يعني أنها باتت أكثر اندماجاً بالسوق الدولية في الوقت التي تبحث فيه دول الغرب عن أسواق جديدة تعزز من خلالها معدلات النمو المتهاوية والتي لم تتجاوز 2% في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. إن هذا الوضع يلزم الروس بمهمات ثورية على الصعيد الاقتصادي فيما لو أرادوا الاستمرار في النهج ذاته أي نهج الندية مع الغرب وهو ما يتطلب مثلاً مضاعفة معدل دخل الفرد لأكثر من مرة فهو لايزيد حالياً عن 11 الف دولار في روسيا مقابل 47 ألف دولار تقريباً في الولايات المتحدة و35 ألف دولار للولايات المتحدة، وفي هذا السياق أيضاً قد يلعب الانفتاح الروسي على أوروبا ذات الدخول المرتفعة دوراً هاماً في تعزيز فرص النمو في روسيا فيما لو استجاب القطاع الإنتاجي الروسي لهذا الطلب المرتفع بكفاءة عالية. يضاف إلى هذه التحديات مثلاً تحديات بنية النسيج الإجتماعي المتنوع والذي قد يسعى أعداء روسيا إلى توتيره في هذه اللحظات وهو ما قد يهدد بنية الدولة الروسية، ويلاحظ في هذا السياق ما حصل مؤخراً في جمهورية داغستان إحدى الجمهوريات الروسية حيث تم يوم الثلاثاء 28آب اغتيال سيد افندي التشيركاوي(74 عاما) أحد أبرز شيوخ الصوفية في الجمهورية، و يرد في أحد الأسباب الرئيسية المحتملة لجريمة اغتيال الشيخ هو أنها موجهة لإحباط المصالحة بين أنصار الإدارة الدينية لمسلمي داغستان والسلفيين. وقد ولدت هذه الجريمة مصاعب جمة في طريق التقارب بين أنصار الإعتدال في الإسلام والسلفيين. من جانب آخر لا يستبعد احتمال أن يكون لدى مدبري الجريمة هدف آخر هو إرغام الآلاف من أنصار الشيخ على حمل السلاح. وفي كافة الأحوال فإن اغتيال شخصية دينية معروفة يمكن أن يقود إلى احتدام الوضع أكثر في داغستان البعيدة أصلا عن الهدوء والسكينة. إذاً نلاحظ أن الدور الروسي يتطلب العديد من القراءات المعمقة رغم أن الثابت اليوم هو جديته العالية في ردع التدخل الغربي في الأزمة السورية.