في عرش الديمقراطية.. من يحكم؟!
قال باحث سياسي بارز في اليابان ذات مرة على شاشة إحدى المحطات الفضائية ، إن الولايات المتحدة لديها أسوأ نظام رئاسي، وبريطانيا لديها أسوأ نظام برلماني، منتقداً بذلك المسرحية الديمقراطية الهزلية التي تسمى «الانتخابات».
لكل طبقة من طبقات المجتمع ديمقراطيتها الخاصة بها ، لا توجد طبقة تمنح الطبقة المناقضة لها ديمقراطية تمكنها من القضاء عليها، فالديمقراطية في أمريكا ديمقراطية بورجوازية أي ديمقراطية الطبقة الحاكمة ، الإنسان في تلك البلدان يستطيع أن ينتقد رئيس الدولة ليلاً ونهاراً، ولكن هذا الانتقاد لا يؤدي إلى أي نتيجة فالساسة في البلدان البورجوازية يعتمدون مبدأ «قل ما تريد وافعل ما أشاء»
فوصول شخص كأوباما أسود البشرة إلى البيت الأبيض لأمر جيد، و إن التعاطف الكبير الذي لقيه أوباما حول العالم بسبب كونه مرشحاً أقلوياً ذا بشرة سوداء يجسد على الأرض طموحات المضطهدين والمظلومين حول العالم يبدو مفهوماً ومبرراً ولكن أوباما للأسف ليس داكناً بالقدر الكافي ليمثل معاناة ومطالب هؤلاء في أمريكا أو في العالم، لا لأن أمه بيضاء خالصة بل لأن عقيدته السياسية التي يعتنقها نخبوية بيضاء وممارساته السياسية التي أوصلته إلى ما هو فيه نخبوية بيضاء وولاؤه للمؤسسة التي احتضنته ورعته ثم دفعت به إلى مقدمة الصفوف نخبوياً أبيض ناصع البياض.
لمحة تاريخية
كان النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها نظاماً نخبوياً مرتبطاً بالطبقات الاجتماعية المسيطرة بما في ذلك انتخابات مجلسي النواب والشيوخ والانتخابات الرئاسية فالدستور الأمريكي القديم حرم الهنود الحمر والسود والنساء وحتى البيض الذين لايملكون عقاراً من حق التصويت فكان بذلك يمثل مصالح تجار العبيد وكبار الملاكين العقاريين في أقصى أشكال الاضطهاد الاجتماعي مأساوية بحق الأمريكيين ولا شك أن النظام السياسي في أمريكا قطع شوطاً كبيراً منذ ذلك الحين، ولكن السمة النخبوية لا تزال كامنة بين ثناياه بشكل كامل، فجميع المكتسبات الإنسانية التي تحققت على مستوى الحقوق السياسية والمدنية للشرائح الاجتماعية المستبعدة والتي تمثل غالبية الشعب جرى نيلها بعد تضحيات جمة ونضال طويل من قبل هذه الفئات استغرق ما يقارب من 190 سنة. ولكن كل تنازل قدمته النخبة الحاكمة تحت وطأة الضغط الشعبي ترافق مع جملة إجراءات قانونية وتشريعية معقدة كفلت استيعاب الحركة الشعبية المطلبية مع بقاء زمام الأمور، إلى حد كبير، في أيدي النخبة .
المجمع الانتخابي (Electoral College)
نستطيع تحديد معالم النظام الانتخابي الأمريكي التي قد تشي بصورة مغايرة للصورة الوردية المستقرة في أذهان الناس بأربع نقاط أساسية :
1-انتخاب الرئيس ونائبه يجري من خلال آلية تدعى بالمجمع الانتخابي والذي يتكون من 538 صوتاً انتخابياً تتوزع على النحو التالي 435 صوتاً تمثل عدد أعضاء مجلس النواب الأميركي و100 صوت تمثل عدد أعضاء مجلس الشيوخ و3 أصوات عن مقاطعة كولمبيا
2-سكان واشنطن العاصمة«مقاطعة كولمبيا» الذين يبلغ عددهم نصف مليون نسمة ليس لهم تمثيل في المجمع الانتخابي إلا عبر أعضاء مراقبين لا يحق لهم التصويت
3-الانتخاب يجري وفقاً لقاعدة إن الولاية تعتبر دائرة انتخابية واحدة والمرشح الفائز فيها يحصد جميع أصواتها الانتخابية بصرف النظر عن نسبة الأصوات الشعبية التي ظفر بها في تلك الولاية ،فلو فرضنا إنه فاز في ولاية كاليفورنيا الولاية الأكثر سكاناً حيث يزيد عدد سكانها عن 36 مليون نسمة بفارق صوت شعبي واحد فإنه يحصل على 55 صوتاً في المجمع الانتخابي مقابل لا شيء لغريمه
4- يجري انتخاب كامل أعضاء مجلس النواب لمدة سنتين وعددهم عن كل ولاية يتناسب مع عدد سكانها وثلث أعضاء مجلس الشيوخ لمدة ست سنوات بحيث تتمثل كل ولاية من الولايات الخمسين بعضوين في المجلس ويجري انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشيوخ كل سنتين بالتزامن مع انتخابات مجلس النواب
وفقاً لهذه القواعد في الانتخابات الرئاسية فإن وزن الصوت الشعبي الواحد في الولايات المكتظة سكانياً مثل كاليفورنيا أو نيويورك يصبح أقل من مثيله في الولايات ذات الكثافة السكانية المنخفضة مثل : وايومنغ – الاسكا وهذا ينتخب أبسط مبدأ ديمقراطي أساسي «شخص واحد ،صوت واحد» وهذا بحجة أن هذا النظام يمنع إهمال الولايات الصغيرة حجماً ، وفي انتخابات مجلس الشيوخ يغدو التباين في وزن الصوت الشعبي بين ولاية وأخرى أكثر وضوحاً وإمعاناً ، فعدد سكان كاليفورنيا يبلغ 70 ضعفاً مقارنة بعدد سكان وايومينغ وكل من الولايتين ممثلة بعضوين في مجلس الشيوخ وإذا علمنا أن مجلس الشيوخ هو الغرفة ذات السلطات والصلاحيات الأوسع مقارنة بمجلس النواب فأن ذلك ينطوي على نتائج خطيرة فمجموع سكان الولايات السبعة عشر الأقل سكاناً في أمريكا لا يتجاوز 7% من إجمالي عدد السكان وهم ممثلون في مجلس الشيوخ بـ 34 عضواً أي الثلث ويستطيعون تعطيل تغيير أي تعديل دستور أو المصادقة على أية معاهدة لأن كلا الأمرين بحاجة إلى ثلثي أعضاء المجلس بحسب الدستور الأمريكي ، بل إن نصف أعضاء المجلس يمكن انتخابه من قبل 15% فقط من عدد السكان يقطنون في الولايات الـ25 الأقل سكاناً ، الأمر الذي يمنحهم عمليا حق «فيتو» معطل لأي قانون يقره مجلس النواب لذلك لا يشترط للمرشح الرئاسي الحصول على أكثرية في الأصوات الشعبية طالما أنه استطاع أن يحصد 270 صوتاً انتخابياً في المجمع الانتخابي ليضمن فوزه، تشكل ولايات« فلوريدا –اوهايو – كارولاينا الشمالية –انديانا - ميسوري – نيفادا » ساحة النزال الفعلية في الانتخابات ونسبتها 12% فقط من مجموع 50ولاية ،فأصوات المجمع الانتخابي هي الحاسمة .
ففي العام 2000 خسر آل غور الانتخابات الرئاسية بالرغم من تفوقه على نظيره بوش الابن بـفارق 540000 صوت شعبي، وتعزى هذه الخسارة إلى أن بوش الابن استطاع الحصول على كامل أصوات ولاية فلوريدا وعددهم 27 مندوباً وبذلك حصل على أصوات 271 مندوباً في المجمع الانتخابي.
إن الوجه الحضاري المشرق الذي تسوقه الولايات المتحدة للعالم والمتمثل في التنوع العرقي والديني والمذهبي والثقافي والاجتماعي ينحسر انحساراً كبيراً في الولايات قليلة السكان حتى أنه يكاد ينعدم في بعضها صحيح أن ولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك وتكساس وفلوريدا تزخر بثراء وتنوع شرائح المجتمع ولكن ولايات وايومينغ وآيداهو ونبراسكا وداكوتا الشمالية والجنوبية تكاد تكون لوناً واحداً وديناً ومذهباً واحداً وطبقة اجتماعية واحدة وهي الطبقات المالكة، فهذه الولايات قليلة السكان تتحكم بنتائج الانتخابات من خلال مندوبيها في المجمع الانتخابي ،وهذا اقصاء فاضح بحق الشرائح المعدومة والمسحوقة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً .
ديمقراطية أمريكا ونظام الحزب الواحد
يقول تشومسكي إن غالبية مضمون حملات المرشحين الانتخابية تتركز على الخطب الرنانة ،وإعطاء الآمال الكاذبة وتخلو دائماً وبشكل مقصود من القضايا التي تمس مصالح الناس الطبقية والتي تمثل مصالح 99% من سكان الولايات المتحدة .
في مقابلة نعوم تشومسكي مع مجلة دير شبيغل الالمانية بهذا الخصوص قال :ثمة من يعتقد بعدم وجود فروق جوهرية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري أصلاً، فأمريكا يحكمها حزب واحد هو حزب كبار الملاك ورجال الأعمال وهو في نهاية المطاف يمثل بوجهيه الجمهوري والديمقراطي مصالح طبقة النخبة الاقتصادية المتنفذة بغض النظر عن البلاغة الإنشائية التي تطفح بها خطابات المرشحين وبرامجهم الانتخابية عن قيم الديمقراطية الأمريكية الراسخة التي تعكس حرية أفراد الشعب الأمريكي ورغباته وتطلعاته.
فهناك اختلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ، ولكنها ليست أساسية فهذه الاختلافات هي مجرد أوهام يتم تصديرها إلى الشعب عبر وسائل الإعلام المملوكة من النخبة والتي تمثل 1% من السكان ،ويضيف تشومسكي :إذا نظرنا عن كثب إلى هذه الخلافات نجد أنها خلافات أقل ما يقال عنها إنها تافهة ومحدودة فمثلاً قضية الحرب في العراق كيف إختلف عليها الجمهوريون والديمقراطيون أثناء الحملات الانتخابية ؟ فالصقور (الجمهوريون ) ارادوا الاستمرار بالحرب في العراق مهما كلف الثمن والحمائم (الديمقراطيون ) أرادوا الانسحاب من العراق بحجة أن الحرب أصبحت مكلفة للغاية ولكن كليهما لا يعترفان بأن ما فعله جنودهم في العراق جريمة إنسانية لا تغتفر ، فالحزبان مختلفان في الشكل ومتفقان في الجوهر
لذلك فالحزب الواحد والحاكم في الولايات المتحدة هو حزب المصالح والأعمال وهذا تجسيد لمقولات الآباء المؤسسين الثلاثة والتي عرفت في الموروث السياسي الأمريكي بالأوراق الفيدرالية «Federalist Papers» صرح «جون جاي» أحد هؤلاء الثلاثة : إن الطبقات العليا في المجتمع هي النوعية الأجود وأن من يملك البلاد فعليه أن يحكمها.
يتكون المجمع الانتخابي من 538 مندوباً كما قلنا سابقاً وهم أنفسهم يمثلون مصالح 538 عائلة تملك الاحتكارات الرأسمالية العالمية العابرة للحدود ويمثل مصالح هذه العائلات الحزبان الجمهوري والديمقراطي واللذان هما وجهان لحزب واحد هو» حزب المصالح»
تحدث تشومسكي عن المثقفين الأمريكيين الذين أصبح لديهم تبعية مطلقة للسلطة الحاكمة في الولايات المتحدة بإشارته إلى ما قاله الروائي جورج أورويل بأن لديهم القدرة الفائقة على وصف جرائم الغير وتوظيفها في الحملات الإنتخابية بينما يصمتون عندما يتعلق الأمر بالجرائم الامريكية حول العالم
أن مجمل ما تقدم يفضي إلى نتائج جديرة بالتأمل والدراسة وتلقي بظلال من الشك حول مصداقية العملية الانتخابية برمتها ومدى تمثيلها لرأي الشعب الأمريكي فالنظام الانتخابي الأمريكي في نسخته الحالية والتي لم يطرأ عليها تطورات نوعية تذكر منذ نشأة أمريكا منذ 200 سنة يفضي عملياً إلى عاقبتين رئيسيتين الأولى استبعاد أكبر قدر ممكن من المشاركة الشعبية والثانية تضخيم العراقيل في وجه صعود نجم حزب ثالث يمثل التطلعات الشعبية للأمريكيين تمثيلاً حقيقياً ، وإذا أردت أن تعرف ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية انظر إلى سياسات هذه الدولة الخارجية ، فستراها تمارس أقصى حالات الديكتاتورية من خلال احتلال واضطهاد غالبية شعوب العالم. يقول ستالين : إن الاستعمار (الامبريالية) يستعبد الشغيلة في الغرب والشعوب في الشرق بأشكال شتى وتحت أسماء مختلفة .