جدلية الثورة المضادة والأصولية.. في التحول الفنزويلي
تنشر مجلة كنعان الإلكترونية كتاباً بعنوان «تحول فنزويلا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، وهو من تأليف غيرغوري ويلبيرت وترجمة بسام أبو غزالة ويضيء الكاتب في فصله الأول حول العوامل الممهدة للتحول الفنزويلي وتنشر قاسيون مقتتطفات منها
الاقتصادُ الفنزويليُّ، ونظامُ الحكم، والمجتمعُ، والثقافةُ، كلُّها مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً بتجربة البلاد مع النفط، وبطريقة أو بأخرى، يمكن المرءَ أنْ يُلاحظَ تذبذبَ البلادِ من تذبذبِ الاقتصادِ النفطيّ.
الازدهارُ النفطيُّ (1958-1978)
ما بين اكتشافِ النفطِ في فنزويلا، في وقتٍ مبكِّرٍ من القرنِ العشرين، وثلاثينياتِ ذلك القرن، أصبح النفطُ الأهمَّ والوحيدَ كمُنتَجٍ وسلعةٍ مُصدَّرةٍ وكمَصدرٍ للثروةِ الخاصةِ والعامة. وما إن حلَّ العام 1920 حتى كانت فنزولا أكبرَ دولةٍ مُصدِّرةٍ للنفط. وفي العام 1935 شكَّلت صادراتُ النفط 91.2% من صادراتِ البلاد. وكان الاقتصادُ قبل ذلك زراعياً أمريكيا لاتينياً تقليدياً يعتمدُ على إنتاج الكاكاو، والقهوة، والسكر، والتبغ.
حين ازدادت أهميةُ النفطِ، تغيَّر البلدُ اقتصادياً من زراعيٍّ إلى بلدٍ يسودُ فيه إنتاجُ النفطِ والتجارةُ والخدمات. وبينما شكَّل الإنتاجُ الزراعيُّ ثُلثَ الناتجِ المحليِّ في فنزولا في عشرينات القرن العشرين، انخفضَ بحلولِ خمسينيات القرنِ العشرين إلى 10% ثم في العام 1998 لم يزد على 6%– وهي أقل نسبةٍ في أمريكا اللاتينية كلِّها.
نتيجةً لهذا الهبوطِ، فقدت نخبةُ الإقطاعيين في فنزويلا قوتَها مبكِّراً جداً في القرن العشرين، وهي القويةُ تقليدياً في معظمِ بقيةِ دولِ أمريكا اللاتينية. كذلك، كان التركيزُ على النفطِ وعدمُ قدرةِ البلادِ على تطويرِ صناعةٍ محليةٍ قويةٍ يعني عدمَ بروزِ طبقةٍ مستثمرةٍ تحلُّ محلَّ النخبةِ الإقطاعية. بدل ذلك، لما كان معظمُ النشاطِ الاقتصاديِ بطريقةٍ أو بأخرى تحت مظلةِ الصناعةِ النفطيةِ، وهي الخاضعةُ لتنظيم الدولة، فقد استقرَّ مركزُ قوةِ فنزويلا الحقيقيُّ في الدولةِ عينِها. مع هذا، لم يبرز كذلك شيوخُ نفطٍ محليون، لأن إنتاجَ النفط الفنزوليِّ كانت تُهيمنُ عليه شركاتُ النفطِ الأجنبيةُ منذ اكتشافِ النفط حتى العام 1974، حين تمَّ تأميمه.
شكَّلَ هيكلُ الدولةِ الاقتصاديُّ– المعتمدُ على النفط– إذاً هيكلَها الاجتماعيَّ، مُنتِجاً طبقةً عاملةً ضعيفةً بسبب بطءِ عمليةِ التصنيعِ، ومُنتِجاً أيضاً نخبةً إقطاعيةً ضعيفةً، لسببٍ عائدٍ، جزئيّاً على الأقلَّ، إلى عمليةِ التمدينِ السريعةِ التي لم تُعطِ هذه النخبةَ وقتاً كافياً لتتطوَّر.
هناك نتيجةٌ أخرى للاقتصادِ المعتمدِ على النفطِ: أنّ من راكم الثروةَ وأدارها هي الدولة، لا نخبةٌ اقتصاديةٌ ما. يعني هذا أن الأحزابَ السياسيةَ هي التي كانت تُهيمنُ على الثروة النفطية، فأبعدت من يمكنُ أن ينافسوها بفعلِ ثقافةِ التحزّب والمحسوبية، التي بدورها عزّزت قوةَ الدولةِ والأحزاب. أضف إلى ذلك أن هذا الترتيبَ جعل الدولة، بسبب قوتها، تبدو «سحرية»، وكأن في مقدورِها حلَّ جميع مشاكلِ المجتمع. كما أنّ هذه الثقافةَ السياسيةَ والهيكلَ الاقتصاديَّ ساهما أيضاً في إضعافِ المجتمعِ المدنيِّ (للطبقات) وفي إنشاءِ ثقافةِ ديمقراطيةٍ عملية.
الأزمة النفطية (1979-1998)
مع هذا، بدأ انزياحٌ رئيسيٌّ في المجتمع الفنزويليِّ ما إن بدأ الازدهارُ النفطيّ يتراجعُ ثم يتوقّف. وقد بدأت نهايةُ العصرِ الذهبيَّ في فنزويلا عام 1979، حين دخلت فنزويلا فترةَ انحدارِها الاقتصاديِّ التي استغرقت عشرين عاماً. في هذه الفترةِ كان يحدثُ بعضُ ازدهارٍ نفطيٍّ، كما حدثَ خلالَ الثورةِ الإيرانيةِ (1980) وحربِ الخليجِ (1991)، لكنَّ تلك الازدهارات ما كان لها أن تعوِّضَ الأرضيةَ المفقودةَ التي سبَّبَها الدينُ الثقيلُ أصلاً، وازديادُ كلفةِ إنتاجِ النفط، وانخفاضُ سعره، والنموُّ السكاني. وقد كان الانخفاضُ في دخلِ النفط بالنسبة إلى الفرد الواحد، وبالتالي في الناتجِ المحليِّ الإجماليّ بالنسبة إلى الفرد، ثابتاً وغيرَ مسبوق في العالم خلال هذه الفترة.
عانى دخلُ الفردِ الحقيقيُّ انحداراً كبيراً بلغ 27% خلال عشرين عاماً، من 1979 إلى 1999. ولم يتعرّض اقتصادٌ آخرُ في أمريكا الجنوبية لمثلِ هذا السقوط المذهل. ومع هذا السقوط، ارتفعت نسبةُ الفقر من 17% عام 1980 إلى 65% عام 1906. ولقد كان انزلاقُ هذه النسبةِ الكبيرةِ من السكانِ في مهاوي الفقر تجربةً صادمةً للطبقةِ المتوسطةِ في فنزويلا، تلك التي توقعت أن ترى مستوى معيشتِها كما كان في العشرين سنةً السابقة، لا أن يقل.
هناك عاملٌ آخرُ في تهافتِ «الديمقراطيةِ التحالفية» الفنزويلية ورفضِها هو الإدراكِ المتزايدِ للفساد. إنه لَطبيعيٌّ تماماً، خاصةً في حالِ تناقصِ المصادرِ الماليةِ، أنْ تتحوّلَ المحسوبيةُ إلى فساد، لأن المحسوبيةَ، بمعنى ما، ليست سوى شكلٍ مُخفَّفٍ من أشكالِ الفساد. والفسادُ، بطبيعةِ الحال، مشكلةٌ متفشيةٌ في معظمِ دولِ أمريكا اللاتينية؛ فهو لهذا لا يجعلُ الحالةَ الفنزويليةَ متميِّزةً، أو يفسِّرُ سببَ انهيارِ النظامِ السياسيِّ هناك وليس في مكانٍ آخرَ (مع هذا، لقد حدث الأمرُ أخيراً في بعض هذه الدول). والأصحُّ أنّه يجبُ أن يُنظَرَ إلى الفسادِ كعاملٍ كان نتيجةً للأزمةِ، فسارعها وعمَّقَها.
هناك عاملٌ ثالثٌ وراءَ سقوطِ نظامِ «بُنتو فيجو» السياسيِّ في فنزويلا أنّه لم يكن لدى الأحزابِ شيءٌ من القدرة الإبداعية. فبناؤها السياسيُّ المتكلِّس، وتركيزُها على الشخصنةِ لا على البرنامجِ السياسيِّ، والإجماعُ العَقَديُّ الحزبيُّ العامُّ، كلُّها جعلت العلاجَ الإبداعيَّ للأزمةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ مُستحيلاً عملياً. إزاء التغيّر السريع في المجتمعِ والظروفِ، تنامَى الضغطُ الداعي إلى التغييرِ، بينما غابت الاستجابةُ المناسبةُ لهذا الضغطِ.
بالإضافةِ إلى التراجعِ الثابتِ في عائداتِ النفط، علينا أنْ نضيفَ أيضاً استجابةَ الحكومةِ النهائيةَ، التي تمثَّلَت عامَ 1989 بطلبِ الرئيس كارلُس أندريز بيرِز قروضاً من صندوقِ النقدِ الدوليِّ وبتقديمِ «تعديلٍ هيكليٍّ» كإصلاحاتٍ لبرالية جديدة. وقد سارعت هذه الإصلاحاتُ في تهافتِ «الديمقراطية التحالفية»، بتعزيزِ الهبوط في الإنفاقِ الاجتماعيِّ، وفي تهافتِ نظامِ التحزُّب والمحسوبية...
• إعداد قاسيون عن نشرة كنعان