كشف الرواية عن الإغريق
في نقاش جرى مؤخراً حول ترشيحات الجمهوريين للانتخابات الرئاسية المقبلة، تعامل مرشحو الرئاسة مع مسألة خفض العجز بوصفها الدواء الشافي المعافي لأوروبا من مرض الأزمة، والمانع لانتقال العدوى إلى الولايات المتحدة وملاقاتها المصير نفسه. وبرغم خطل هذا التشخيص إلا أنه، للأسف، ليس مقتصراً على جمهوريي هذه البلد. إنما هو في الواقع نمط تفكيرطغى على كيفية معالجة الأوروبيين للأزمة مؤدياً بهم، ليس إلى الفشل في احتواء الأزمة فقط، بل إلى تعميقها وانتشار رقعتها.
ترجمة قاسيون
وبهذا الصدد، حيث ظهرت أزمة الديون السيادية الأوروبية لأول مرة قبل عامين تقريباً، تـُعتبر التجربة اليونانية مفيدة وذات دلالات هامة، لأن أزمة ديونها نبهت مسبقاً إلى وجود الأزمة في عدد من دول القارة (ايرلندا، البرتغال، إسبانيا، إيطاليا، وغيرها) من جهة، ولأن الفشل الذريع للتداوي من خلال إتباع وصفة التقشف ينبهنا مسبقاً إلى ما يمكن أن نشهده في كافة أرجاءأوروبا إذا ما تم تعميم سياسات التقشف عليها، من جهة أخرى.
عندما بانت ضخامة ديون اليونان، أكثر ما برز عالمياً في تحليلات السياسيين وقراءات الصحافيين والمعلقين، كان تشخيص المشكلة باعتبارها مشكلةٌ محض محلية، تكمن أسبابها في أمراض المجتمع اليوناني الثقافية واختلالاته السياسية!! وفي حين أن بعض هذه التحليلات كان صحيحاً (مثل، قدرة أثرياء اليونان على التهرب من دفع الضرائب)، فإن بعضها الآخر (مثلمقولة «تضخم» القطاع العام) كان تضليلاً سافراً، يحجب حقيقة أنه لا عمال القطاع العام في اليونان يشكلون نسبة أكبر من نسبتهم في الدول الأوروبية الأخرى، ولا «دولة الرعاية» اليونانية كانت أكثر تقدماً وسخاءً من باقي الدول الأوروبية، بما فيها تلك الدول التي لم تمر بعد بأزمةٍ تماثل بحدتها أزمة اليونان المالية.
وعلاوة على ذلك، أدت محاولات تعريف الأزمة كأزمة يونانية خاصة إلى صرف الأنظار عن اختلال البنى الهيكلية لبلدان منطقة اليورو. فالجمع بين دول من مستويات شديدة التباين، من حيث الإمكانية التنافسية والتطور التقني، ضمن بوتقة عملة واحدة مشتركة أدى ببعض دول المحيط الأوروبي، كاليونان، إلى هلاك هياكل بـُناها الإنتاجية وقدراتها الصناعية بعد إغراقأسواقها بالمنتجات الألمانية الأكثر قدرة على المنافسة. وفي هذا السياق، مال نمو هذه الدول الاقتصادي نحو الاعتماد على القروض السهلة الأقل تكلفة، انطلاقاً من الافتراض الخاطئ بأن البنوك الأوروبية لا يمكن أن تتخلى عن أيٍّ من دول منطقة اليورو!
ورغم ضلال الرواية السائدة عن طبيعة الأزمة اليونانية إلا أنها ما زالت موضوعة قيد التداول بقصد تبرير طريقة التعاطي مع أزمة تنعكس سلباً وضرراً على ظروف معيشة المواطن اليوناني العادي. وهذه الطريقة التي وُضعت كشرطٍ لمنح اليونان قروضاً تسمح لها بمتابعة خدمة ديونها، تتضمن إجراء تخفيضات كبيرة للمعاشات التقاعدية والأجور ورواتب العاملين فيالقطاعين العام والخاص، والقيام بإصلاحات من شأنها تسهيل طرد العمال دون منحهم تعويضات تـُذكر، وتجريد الشغيلة من حقوقهم الأساسية العامة، وطرد الآلاف من عمال القطاع العام، وتخفيضاً حاداً في الخدمات العامة. وكانت النتيجة ارتفاع حاد في معدلات البطالة التي وصلت حالياً إلى 18.4% من عدد السكان، و 43.5% من شباب اليونان.
وحال تنفيذ اليونان لهذه التدابير، كان الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي يتوقعون أن تصبح اليونان قادرة على الاقتراض من الأسواق العالمية خلال ثلاث سنوات. ولكن الحياة دحضت هذا التوقع لحظة ظهرت حاجة اليونان إلى وجبة تعويضات إنقاذية ثانية. ولا غرابة في الأمر، لأن الانكماش السريع للاقتصاد قد أدى إلى انهيار عائداتالضرائب، نتيجة تطبيق تلك الإجراءات.
يدرك المواطنون اليونانيون كل هذا جيداً، فحسب ما تظهره الاستطلاعات يعارض اليونانيون اتفاق التعويضات الإنقاذية الثاني لأنه يطيل أمد التقشف أكثر. بينما، بالمقابل، يرفض الزعماء الأوروبيون الاعتراف بأن إصرارهم على فرض إجراءات تقشف قاسية قد أدى إلى انتشار الأزمة وتعمقها في أنحاء أوروبا، بدلاً من احتوائها. وعوضاً عن ذلك، عمدوا إلى تعطيلالديمقراطية اليونانية بإملائهم على الحزبين اليونانيين الرئيسين وتلقينهما ما يجب أن يكون عليه الموقف من سياسة التقشف، وبمنعهما عن اللجوء إلى الشعب اليوناني أو أخذ رأيه في كافة القرارات التي تتعلق بمستقبله وتقرر مصيره لعقود تالية. وبالنتيجة، تمخض هذا الضغط الأوروبي عن حكومة جديدة يرأسها مصرفي غير منتخب، لأول مرة منذ انتهاء الديكتاتوريةالعسكرية في عام 1974، وتضم في قوامها وزراء عنصريين ومعادين للمهاجرين، من سليلي عقداء اليونان سياسياً.
وفي النهاية، طالما أن الزعماء الأوروبيين يصرون على تطبيق وصفة الدواء الإغريقي ذاتها في عدد متزايد من الدول المأزومة، فإنهم يدفعون أوروبا نحو الدخول في موجة ثانية من الانكماش الاقتصادي، بكل ما تحمله من معاناة وآلام لمواطني القارة العاديين. ولذلك، في مواجهة التفاف القوى السياسية المسيطرة حول أجندة التقشف، وكنوع من الرد على نظام سياسيعجز عن تلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم، من المرجح أن يخرج الناس لاحتلال الشوارع.
• بروفسور علم الاجتماع المساعد في «سيتي يونيفرسيتي»/ نيويورك