انفتاح الأفق في أرض الكنانة

انفتاح الأفق في أرض الكنانة

توهم‭ ‬البعض‭ ‬ممن‭ ‬خابت‭ ‬ثقتهم‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬وأرعبتهم‭ ‬مظاهر‭ ‬القوة،‭ ‬التي‭ ‬تفردت‭ ‬بها‭ ‬الامبريالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الكوني،‭ ‬أن‭ ‬لامجال‭ ‬لعودة‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬ومنطقتنا‭- ‬وخصوصاً‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الكنانة‭- ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الطموحات‭ ‬الشعبية‭ ‬الكبرى‭ ‬بالاستقلال‭ ‬الوطني،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬التي‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬أبلغ‭ ‬تعبير‭ ‬نشيد‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬العظيم‭ ‬‮«‬بلادي‭.. ‬بلادي‭.. ‬لك‭ ‬حبي‭ ‬وفؤادي‮»‬‭.‬

 

لسنا‭ ‬الآن‭ ‬بصدد‭ ‬إجراء‭ ‬‮«‬جردة‭ ‬حساب‮»‬‭ ‬لنضالات‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬العظيم‭ ‬والتضحيات‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬منذ‭ ‬حفر‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المحروسة‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬مصر‭ ‬يوم‭ ‬30‭ ‬حزيران‭ ‬ضد‭ ‬أعداء‭ ‬الشعب‭! ‬لكن‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬كشعوب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشرق‭ ‬العظيم‭ -‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬المآسي‭ ‬التي‭ ‬تصبغ‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬بلون‭ ‬الدماء‭- ‬أن‭ ‬نتفاءل‭ ‬بانفتاح‭ ‬أفق‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬منقطتنا‭ ‬وبلداننا‭ ‬بالتساوق‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬استراتيجي‭ ‬لقوى‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الغربية‭ ‬والرجعية‭ ‬العالمية‭..‬‭ ‬

ها‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬أكتر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬سنة‭ (‬28‭ ‬تشرين‭ ‬الأول‭ ‬1973‭) ‬على‭ ‬لقاء‭ ‬السادات‭ ‬–‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬يوم‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬السادات‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬بعد‭ ‬المباحثات‭: ‬بأن‭ ‬حرب‭ ‬تشرين‭ ‬هي‭ ‬آخر‭ ‬الحروب‭ ‬ضد‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وأن‭ ‬99‭% ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬حل‭ ‬قضية‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬

ما‭ ‬بين‭ ‬6‭ ‬تشرين‭ ‬1973‭ ‬و30‭ ‬يونيو‭ ‬2013‭ ‬تعرض‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬إلى‭ ‬ضغوط‭ ‬وتهديدات‭ ‬وممارسات‭ ‬ومحاولات‭ ‬تطويع‭ ‬وتغريب‭ ‬وحصار‭ ‬وتجويع‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬التحالف‭ ‬الأمريكي‭ ‬الصهيوني‭ ‬الرجعي‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬لها‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري‭ ‬نفسه‭ ‬مثيلاً‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭. ‬

كان‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬أبرزها‭: ‬

الحفاظ‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬وتأمين‭ ‬المصالح‭ ‬الأمريكية‭ ‬والغربية‭ ‬كأولوية‭ ‬تستدعي‭ ‬الاستنفار‭ ‬وإعلان‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تعرضها‭ ‬للخطر‭.‬

تدمير‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المصري‭ ‬وتحطيم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬راكمته‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬السادات‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬وإلغاء‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬التعاون‭ ‬الثنائي‭ ‬المصري–‭ ‬السوفيتي‭ ‬اقتصادياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬وعسكرياً‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬وجعل‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ارتهان‭ ‬للأجنبي‭ ‬وبدون‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬إقليمي‭ ‬حقيقي‭.‬

خلق‭ ‬حامل‭ ‬اجتماعي‭ ‬ومعادل‭ ‬سياسي‭ ‬داخلي‭ ‬قوي‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬تفعيل‭ ‬دور‭ ‬جماعة‭ (‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭)‬،‭ ‬التنظيم‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬تطويره‭ ‬وتمويله‭ ‬غربياً‭ ‬منذ‭ ‬التأسيس‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1928إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬83‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ومركز‭ ‬قيادته‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

تشويه‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬لأبناء‭ ‬المجتمع‭ ‬وتسخير‭ ‬الوسائل‭ ‬السمعية‭ ‬والبصرية‭ ‬المتطورة‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬قوى‭ ‬الفساد‭ ‬الكبير‭ ‬بالمجتمع‭ ‬والمرتبطة‭ ‬بالرأسمال‭ ‬المعولم‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬الإجهاز‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مرتكزات‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬ورموزها‭ ‬في‭ ‬الحقب‭ ‬كافة‭.‬

لكن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحلفاءها‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬والمنطقة‭ ‬فشلوا‭ ‬إزاء‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬قضيتين‭ ‬رئيسيتين‭ ‬وهما‭: ‬

أولاً‭- ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬وثانياً‭- ‬تجريد‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬دوره‭ ‬الوطني‭ ‬تاريخياً‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬حارس‭ ‬للحاكم‭ ‬التابع‭ ‬لمن‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬السلطة‭ ‬بعكس‭ ‬إرادة‭ ‬الشارع‭. ‬

يحتاج‭ ‬هذان‭ ‬الاستنتاجان‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬معمقة‭ ‬وموثقة‭ ‬لا‭ ‬تتسع‭ ‬لها‭ ‬المساحة‭ ‬هنا،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أنجزه‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬هو‭:‬

إعلان‭ ‬نهاية‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬28‭ ‬أيلول‭ ‬1970‭ (‬وفاة‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭)‬،‭ ‬و30‭ ‬حزيران‭ ‬2013‭ ‬بكل‭ ‬رموزها‭ (‬السادات،‭ ‬مبارك،‭ ‬مرسي‭) ‬ومآسيها‭ ‬سياسياً‭ ‬واقتصادياً‭ ‬واجتماعياً،‭ ‬مرحلة‭ ‬فقدان‭ ‬الوزن‭ ‬النوعي‭ ‬لمصر‭ ‬إقليمياً‭ ‬ودولياً‭.‬

رفض‭ ‬الفكر‭ ‬الظلامي‭ ‬بكل‭ ‬رموزه‭ ‬ومؤسساته‭ ‬وبرامجه‭ ‬المعلنة‭ ‬والمخفية‭ ‬من‭ ‬غالبية‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬ثبت‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الدستور‭ ‬المقر‭ ‬يومي‭ ‬14‭ - ‬15‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬2014‭.‬

تأكيد‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ميادين‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬الكرامة‭ ‬الوطنية،‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬كأولوية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الحالية،‭ ‬واللاحقة‭ ‬يوصلنا‭ ‬إلى‭ ‬الاستنتاج‭ ‬الأهم‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬رفض‭ ‬تبعية‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المصري‭ ‬للاحتكارات‭ ‬الامبريالية،‭ ‬ووضع‭ ‬قضية‭ ‬إعادة‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬كأحد‭ ‬أهم‭ ‬أولويات‭ ‬الخروج‭ ‬الآمن‭ ‬من‭ ‬الأزمة،‭ ‬وتوطيد‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‭.‬

الآن‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬ويقال‭ ‬حول‭ ‬ترشيح‭ ‬الفريق‭ ‬السيسي‭ ‬لمنصب‭ ‬الرئاسة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬سيصل‭ ‬لهذا‭ ‬المنصب‭ ‬دون‭ ‬كبير‭ ‬عناء،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عمن‭ ‬سيكون‭ ‬المنافس‭.‬

لكن‭ ‬لابد‭ ‬لأي‭ ‬زعيم‭ ‬مصري‭ ‬قادم‭ ‬تدفع‭ ‬به‭ ‬الجماهير‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬أن‭ ‬يستقوي‭ ‬بالجماهير،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬كجسر‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬المنصب،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬ترشيح‭ ‬السيسي‭ ‬لمنصب‭ ‬الرئاسة‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ ‬منذ‭ ‬اكتمال‭ ‬حشود‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬يونيو،‭ ‬سيكون‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ - ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬تشبيهه‭ ‬بجمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر–‭ ‬ملفان‭ ‬أساسيان‭ ‬وهما‭: ‬البدء‭ ‬بالتخلص‭ ‬من‭ ‬تركة‭ ‬‮«‬كامب‭ ‬ديفيد‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬فرصة‭ ‬تاريخية‭ ‬أمام‭ ‬السيسي‭ ‬تماثل‭ ‬ما‭ ‬أعلنه‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬عن‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬1956‭(!)‬،‭ ‬والملف‭ ‬الثاني‭ ‬مرتبط‭ ‬بالكرامة‭ ‬الوطنية‭ ‬ارتباطاً‭ ‬وثيقاً،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الغائبة‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬لمصلحة‭ ‬قوى‭ ‬الفساد‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الكنانة،‭ ‬ولاشك‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتأمين‭ ‬كرامة‭ ‬المواطن،‭ ‬سيكون‭ ‬موضع‭ ‬الرهان‭ ‬الاساسي‭ ‬لانتقال‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬إلى‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬الناجزة‭.‬