زيارة لها ما بعدها..
جاء القاهرة في أواسط تشرين الثاني وفد روسي رسمي مؤلف من وزير الخارجية ووزير الدفاع، وجرت اجتماعات بينهما ونظيريهما المصريين، كما التقى الوفد رئيس الجمهورية المصرية المؤقت، وكان الوفد موضع ترحيب واسع على مختلف الصعد، وحضرت في ذاكرة المصريين أيام تاريخية كانت فيها العلاقات المصرية الروسية (أيام الاتحاد السوفيتي) مجال فخر واعتزاز من الشعب المصري والشعوب العربية، إلا أن عقابيل اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع الحكومة الإسرائيلية آنذاك، شملت العلاقات المصرية السوفيتية التي انحدرت بعيداً عن إدارة الشعب المصري ومصالحه الوطنية، وبالمقابل أخذت العلاقات المصرية الأمريكية تتصاعد وتزيح العلاقات المصرية السوفياتية.
ومنذ سنوات ظلت العلاقات المصرية الروسية تراوح مكانها وإن لم تنقطع فإنها اقتصرت ببعض الميادين وخاصة ميدان الأسلحة التي هبطت نسبتها إلى 45% من الأسلحة المصرية التي كانت تحتاج إلى الصيانة.
تعتبر الزيارة نقلة في تطور السياسة المصرية والسياسة الروسية وهي في مستوى ما حققته روسيا من تقدم في هيبتها الدولية ومكانها، وكما إنها جاءت أمر طبيعياً بعد إنهاء حكم الإخوان المسلمين، ولاسيما أن المحادثات الروسية المصرية لم تنحصر في نطاق الأسلحة بل شملت مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية بما فيها الأزمة السورية وضرورة الحل السياسي.
كانت الزيارة موضع تنوع في الآراء والتقييم، كما تباينت مواقف الدول منها، وقد قصر البعض أهمية الزيارة على الأسلحة، وذلك لعدم إيلاء الزيارة الاهتمام الذي تستحقه، ومن المعروف أن تجارة الأسلحة لها سوق وهي سائدة في عالمنا، لكن كامب ديفيد قيدت الإرادة المصرية لسنوات، وقد كسرت الزيارة تلك القيود، فجرى خلال الزيارة توقيع إتفاق يشمل تزويد الجيش المصري بأسلحة هو بحاجة ماسة لها كما جرى الاتفاق على تطوير الإنتاج المشترك لأنواع من الأسلحة رغم أهمية الاتفاقية العسكرية، إلا أن الزيارة ذات مغزى أبعد من مسألة السلاح. وقبل فترة قصيرة كان وزير خارجية حكومة أوباما في زيارة لمصر لكنه لم يستطع إقناع القيادة المصرية بتوجهاته التي طال بعدها الأساسي فرض سياسات إقليمية ودولية على القيادة المصرية.
إن البعض ذهب باتجاه التقليل من أهمية الزيارة وطمس أبعادها السياسية التي كان في مقدمتها أن الوضع الدولي الراهن منح الدول المستقلة النامية مساحات من تنويع علاقاتها الدولية، بما يخالف المطالب الأمريكية، وأخرج إرادتها الوطنية من أساليب المحاصرة الأمريكية، صحيح أن العلاقات المصرية الأمريكية واسعة لكن هناك واقعاً دولياً جديداً يمتاز بأنه قدم للدول النامية المستقلة مساحات أرض للتمايز عن الإدارة الأمريكية على صعيد المنطقة وفي خياراتها الوطنية وعلى الصعيد الإقليمي والدولي.
أراد البعض أن يذهب بعيداً، فصور أن الزيارة قلبت الأمور في المنطقة رأساً على عقب، ويختفي في كواليس ذلك تحريض على القيادة المصرية وسعي لمحاصرة توجهاتها التي بات واضحاً أنها ترفض التوجهات الأمريكية بشأن الوضع الداخلي في مصر، وترفض الممارسات الأمريكية في تحديد القدرات العسكرية لمصر، وترفض الإملاءات السياسية.
لاذ المستوى الرسمي الأمريكي بالصمت وترك الأمر للصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، وفي كل الأحوال لا يمكن إغفال أن إدارة أوباما بطرائق متعددة ضد القيادة المصرية، خاصة وأن الزيارة الروسية حظيت بارتياح العديد من الدول العربية بما فيها الدول الخليجية، وتزايد مخاوف الأمريكيين من نمو اتجاهات تؤثر على العلاقات الخليجية الأمريكية في مختلف المجالات بما فيها العسكرية والاقتصادية.
وهكذا فمخاوف الإدارة الأمريكية كبيرة رغم عدم الإعلان عنها وترتبط تلك المخاوف بتزايد الدور الروسي في المنطقة مما يعزز مكانته الدولية، وتخشى الإدارة الأمريكية من تنامي التناقضات مع كثير من الدول على الصعيد العالمي ناهيك عن صعيد المنطقة، أما الأمر الآخر فهو أن هذه التغيرات تأتي في ظروف الأزمة الأمريكية الاقتصادية المصحوبة بالتخبط السياسي والبلبلة الداخلية، وليس خافياً أن ترابط الظواهر يفسح المجال لتطور الأزمة في سائر الميادين بما فيها الاقتصادية والاجتماعية.
لقد فتحت الزيارة آفاق أبواب واسعة والمخاوف ليست من أعداء الشعب المصري في الولايات المتحدة فقط فلا ينبغي إغفال أن الإخوان المسلمين وأمثالهم سيزدادون تخريباً كي يدفعوا إدارة أوباما إلى مستويات جديدة من عداء الشعب المصري وقياداته الوطنية.