ليبيا.. ما بعد «التحرير»!
أخذ تطور الأحداث في البلدان الذي تم إسقاط أنظمتها بالتدخل العسكري المباشر أحد مسارين:
- تدخل عسكري خارجي، إسقاط النظام، تدمير بنية الدولة، وصولاً إلى التقسيم (المثال اليوغسلافي)
- إسقاط النظام، تدمير بنية الدولة، وصولاً إلى فرض نموذج الدولة الهشة ( الصومال، أفغانستان، العراق، ليبيا..)
حسب الوقائع على الأرض لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الحسم المباشر، وفرض الأجندة المعبرة عن مصالحها بضربة واحدة كما جرت الأمور في السيناريو اليوغسلافي، وبات الشائع هو محاولة تعميم نموذج الدولة الهشة، كما جرى ويجري في العديد من البلدان اليوم، ومنها ليبيا..
يلاحظ المتابع لتطورات المشهد الليبي أنها تأخذ السياق ذاته الذي أخذه منحى تطور الأوضاع في العراق إذ أبقت الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً على تلك العوامل التي تبرر لها حضورها الدائم في الساحة الليبية، بدءاً من تعويم (معارضة) الخارج، وتصنيع سلطة (جديدة) قوامها الأساسي أمراء الحرب والزعامات التقليدية في المجتمع، بالترافق مع الضخ الإعلامي الذي يرسخ انتماءت ما قبل الدولة الوطنية وفرضها على الوعي الاجتماعي، وإشهار فزاعة الإرهاب بشكل دائم – اختطاف أبو أنس الليبي - وجعلها ساحة للتنافس مع القوى الدولية الأخرى، -الهجوم على السفارة الليبية-، وانتشار فرق الاغتيال للكفاءات والكوادر العلمية التي لاتروق للدوائر الغربية، وبعبارة أخرى فإن ليبيا كغيرها من الدول التي تدخلت فيها واشنطن أصبحت ساحة لحزمة من الصراعات العبثية.
جاء في تقرير قدمته البعثة الأممية في ليبيا «أن الوضع الأمني في البلاد يزداد سوءاً بعد مرور عامين على العملية الغربية لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي. وجاء في التقرير أن الوضع المضطرب في ليبيا برمته، في أجزائها الشرقية والجنوبية بشكل خاص، يبقى مصدراً لقلق بالغ». وتابع أن عمليات الاغتيال السياسي والنشاط الإجرامي والهجمات والتهديدات ضد البعثات الدبلوماسية تنتشر عبر البلاد، بما فيها طرابلس. واعتبر التقرير أن السبب الرئيسي في انتشار الفوضى هو فشل السلطات في إعادة الميلشيات، التي بقيت منذ الحرب ضد القذافي، إلى الحياة السلمية. وشدد على أن آلاف المسلحين سيطروا على مناطق شاسعة شرق ليبيا.. وحسب التقرير« أن السبب الثاني لاستمرار الاضطرابات هو الاستقطاب السياسي والفشل في التوصل إلى اتفاق بشأن مستقبل البلاد» كما لفت التقرير الانتباه إلى سعي المناطق الشرقية الغنية بالنفط للحصول على الحكم الذاتي.
من الجدير بالذكر هنا العودة الى ما أفصح عنه أحد أهم منظري البرجوازية على المستوى العالمي « بيرجنسكي» في سياق حديثه عن قوس التوتر، فالمراكز البحثية الغربية ودوائرصياغة السياسات، وصنع القرار، بما تمتلك من أدوات مالية واستخباراتية وعسكرية، وبالاستناد إلى التناقضات الداخلية فيما يسميه بيرجنسكي قوس التوتر الممتد من أفغانستان الى شمال ليبيا، تعمل على إعادة صياغة الخريطة السياسية بما يضمن مصالحها، بغض النظر عن الستارة التي تختفي وراءها، في الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتبين التجربة الملموسة في ليبيا وغيرها أن التدخل الأمريكي والغربي عموماً إنما يعمل على تعميق التناقضات وتشويهها وتمييعها ليس باتجاه نظم سياسية جديدة تمثل شعوبها، بل باتجاه تأبيد الاستبداد عبر تغيير شكله فقط، سواء كان عن طريقها مباشرة أو عن طريق أدوات محلية وإقليمية.