النضال الطبقي للحرفيين 1913 ـ 2013(1)

النضال الطبقي للحرفيين 1913 ـ 2013(1)

كانت الحرِف الموجودة في سورية ومعها فئة الحرفيين في القرن التاسع عشر تتميز بطابع  أبوي بطريركي  وبقي شكل الاستثمار الحرفي لمدة طويلة  يأخذ هذا الطابع حتى بدء دخول الرأسمال الأجنبي إلى سورية ولبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وقد تميز التركيب الاجتماعي لسورية عشية الاستعمار الفرنسي بوجود نسبة مئوية كبيرة من الفئات الوسطى في تركيب سكانها، وظهرت التغييرات في هذه الفئة نتيجة تعاظم نشاط الرأسمال الأجنبي الذي كان تأثيره قليلاً نهاية العهد العثماني، وأصبح أكبر في عهد الاستعمار الفرنسي وفي هذه المرحلة بالضبط منذ العشرينيات كان الحرفيون السوريون يناضلون ضد دخول الرأسمال الأجنبي الذي أثر على الإنتاج الحرفي بشكل سلبي.

 

الحرفيون في عهد الاستعمار الفرنسي

الطريق الاستعماري للتنمية والعرقلة المصطنعة لتطوير الصناعة الوطنية قد أدت إلى عرقلة عملية تكون الطبقة العاملة، بالإضافة إلى غزو الاستثمار الرأسمالي للحرف الوطنية ذات الطابع الأبوي. إن المنافسة مع الصناعة المتطورة للدول الاستعمارية قد أوصلت جماهير الحرفيين إلى الإفلاس وقد حرموا من وسائل الإنتاج، ولم يتحولوا في الوقت نفسه إلى طبقة عاملة بل بقيت هذه الفئات شبه عمالية بسبب التطور الضعيف للصناعة الوطنية.

فالجماهير الأساسية من الحرفيين بسبب عدم قدرتها على إيجاد وسائل الإنتاج قد اضطرت من جديد إلى ممارسة مهنتها السابقة «الحرفة» ولكن بمستوى أخفض من السابق، والنتيجة كانت أن الجماهير الأساسية من سكان المدن السورية حتى بلوغ الاستقلال كانت فئات وسطى؛ ومنها الحرفيون وقسم كبيراً من الحرفيين أصبحوا فقراء وأشباه عمال في ظل الغزو المتسارع للصناعات القادمة من البلدان الامبريالية. في الوقت نفسه لم تدخل الحرف في نطاق العلاقات الرأسمالية وتابعت رغم الهبوط والتراجع ترابطها بشكل نسبي مع العلاقات الإنتاجية البائدة مع المؤسسات والتقاليد القديمة.

أثناء تراجع الإنتاج الحرفي وتعرض العديد من الورش للتخريب بسبب المنافسة مع الخارج بدأ يظهر بشكل بطيء الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج الحرفي في نهاية عهد الاستعمار الفرنسي، وأصبح أغنى الحرفيين في إحدى الحرف «النجارة مثلاً» يحتكر العمل الحرفي لحرفته، وتحول هؤلاء فيما بعد إلى رأسماليين كبار في الصناعة. 

أمام غزو العلاقات الرأسمالية في الإنتاج صار الحرفيون الصغار والمتوسطون وهم الكتلة الأساسية لجماهير الحرفيين يشنون النضال ضد الرأسمال الاجنبي وممثليه في الداخل وظهر هذا التحرك بشكل واضح منذ منتصف الثلاثينيات عبر مظاهرات النجارين والخياطين والحدادين من أجل الأجور وضد البطالة المتفشية في صفوفهم، ومن أجل تشكيل نقابات تمثلهم وتدافع عنهم.

 

نشوء نقابات الحرفيين 

كان تسارع العلاقات الرأسمالية سبباً في حدوث أزمة اقتصادية كبيرة في البلاد عامي 1929 – 1930، وجاء في تقرير غرفة تجارة دمشق إن عدد العمال والحرفيين الذين أصبحت ورشهم في حكم الاضمحلال أكثر من ثلاثين ألفاً في مدينة دمشق وحدها وفي صفوف هؤلاء بالتحديد ظهرت الاحتجاجات بسبب الأزمة التي ضربت الإنتاج الحرفي، وحتى منتصف الثلاثينيات أصبح الحرفيون يعانون تسارع إغلاق الورش وزجهم في جيش البطالة المتزايد. في مدينة دمشق مثلاً أصبح عاطلاً عن العمل 450 نجاراً و570 من عمال وحرفيي الأحذية والمئات من الخياطين وغيرهم، وفي مدينة حمص أصبح عاطلاً عن العمل 200 نجار و570 من عمال وحرفيي الأحذية و75 خياطاً، وكذلك في حلب، وشملت هذه الأزمة كل الحرف كالنجارة والخياطة والحدادة وصناعة الأحذية والخزف واللحامين وغيرهم، ومنذ عام 1931 بدأت تشتد الإضرابات المطلبية ضد البطالة.

تبلورت حركة الحرفيين النقابية في ظل هذا النضال القاسي ضد الرأسمال الأجنبي والاستعمار الفرنسي واستطاعوا انتزاع قانون يشرع تنظيماتهم النقابية العمالية ذات الطابع الحرفي، وهو القرار رقم 176 لعام 1935 واستمرت هذه النقابات بطابعها الحرفي حتى تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية عام 1938، وتشكيل نقابات عمالية لجميع المهن والحرف.

بعد تأسيس اتحاد العمال ظهرت إلى الوجود نقابات عمالية للنجارين بأنواعهم واللحامين بأنواعهم والخبازين وصانعي المواد الغذائية بأنواعهم والخياطين بأنواعهم، وصانعي الأحذية والكندرجية والإسكافية والساعاتية والحلاقين وعمال المقاهي، والمناخلية والحدادين بأنواعهم والصاغة والدباغين والدهانين وغيرهم.

 

نضال الحرفيين بعد الاستقلال

من قلب الإنتاج الحرفي الكبير تطورت الصناعات الوطنية وظهرت الرأسمالية الوطنية على حساب تخريب الإنتاج الحرفي الصغير والمتوسط، وإفقار صغار الحرفيين وأصبح هؤلاء يشكلون طبقة شبه عمالية، وتخوض نضالها إلى جانب الطبقة العاملة، فخلال الإضرابات العمالية المفصلية أعوام 1937 – 1946 – 1947 – 1952 من أجل زيادة الأجور، وتشريع قانون للعمل، وتحديد ساعات العمل والحريات النقابية؛ أضرب الحرفيون العمال عن العمل من أجل مطالبهم العادلة. وفي سنوات العهد الديمقراطي البرلماني 1954 – 1958 ازدادت وتيرة الإضرابات العمالية، وإضرابات الحرفيين أشباه العمال في دمشق وحلب وحمص بشكل رئيسي، وكان سبب الإضرابات التسريح التعسفي من العمل وساعات العمل الطويلة وانخفاض الأجور.

 

الطبقة العاملة الناشئة حديثاً

أما في عهد الوحدة السورية المصرية فقد تسببت البضائع المصرية التي غزت السوق المحلية بإغلاق المزيد من الحرف الصغيرة والمتوسطة، وحتى الكبيرة منها وتسببت حملات القمع الموجهة ضد القوى السياسية والنقابية بتراجع عمل النقابات، ومنع الإضراب عن العمل في ظل تخريب الإنتاج الحرفي الصغير والكبير والصناعة الوطنية، ووقعت البلاد في أزمة كبيرة وازداد عدد العاطلين عن العمل.

بينما في سنوات الخمسينيات أصبح الحرفيون الصغار يصبحون شيئاً فشيئاً جزءاً من الطبقة العاملة الناشئة حديثاً، وخاصة الذين يعملون في مهن الخياطة والدهانات وصناعة الأحذية وغيرها، في حين استمرت حرف عديدة تعمل بأسلوب الإنتاج الأبوي البطريركي، وبقي العمل الحرفي على هذا الشكل حتى منتصف الستينيات كذلك حرف أخرى كانت محسوبة على الطبقة الوسطى مثل الصياغة لم تتأثر كثيراً لأن دخلها كان كبيراً بالمقارنة مع الحرف المتوسطة والصغيرة. 

كان وجود فئة الحرفيين كجزء من الطبقات المتوسطة في سورية خلال النصف الأول من القرن العشرين من مميزات التركيب الاجتماعي والتطورات الاقتصادية الاجتماعية التي جرت في عهد الاستعمار الفرنسي وما بعد الاستقلال.