حق الفروغ... مقاربة تاريخية وقانونية لتحقيق التوازن والعدالة

حق الفروغ... مقاربة تاريخية وقانونية لتحقيق التوازن والعدالة

ما إن سقطت سلطة الأسد حتى برزت مشكلة قديمة نشأت منذ منتصف القرن الماضي، هي مشكلة الإيجار القديم الخاضع للتمديد الحكمي، ولا سيما في العقارات التجارية المؤجرة وفق المرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952 وتعديلاته.

فقد طالب المالكون بإنهاء هذه العقود واستعادة أملاكهم، استناداً إلى القواعد العامة في القانون المدني التي تجعل العقد شريعة المتعاقدين، وأن المدة المتفق عليها شرط أساسي لا يعدل إلا برضا الطرفين. واعتبروا أن منح المستأجر حق البقاء بعد نهاية المدة بإرادته المنفردة تشريع استثنائي مخالف لمبادئ العدالة، إذ لا توازن بين الأجرة الزهيدة التي يتقاضونها وبين الأرباح التي يجنيها المستأجرون، خاصة مع تدني قيمة النقد وتخمينات الخبراء غير الواقعية. وقد زادت المشكلة مع تفتت الملكية بين الورثة وصعوبة بيع العقارات المشغولة، مما أفقدها جزءاً كبيراً من قيمتها.

في المقابل، تمسك المستأجرون بحقهم في إشغال هذه المحلات، استناداً إلى شرائهم (حق الفروغ) من المالكين، ودفعهم مبالغ وصلت أحياناً إلى 90% من قيمة العقار. وبرروا انخفاض الأجرة بأن المالك استوفى عند التعاقد بدل فروغ كبيراً عوضه عن القيمة الحقيقية للعقار، وأن عوائق التسجيل في السجل العقاري أو رغبة المالك بالاحتفاظ بالملكية كانت سبباً في عدم نقل الملكية لأسمائهم.

وحق الفروغ عرف تجاري قديم، بموجبه يدفع المستأجر مبلغاً للمالك مقابل تسليمه العقار وتمكينه من استثماره. وعُرف أيضاً باسم (خلو الرجل). وكان يترافق غالباً مع نقل التكليف الضريبي باسم المستأجر لإثبات التصرف، ولإعفاء المالك من الضرائب الناشئة عن الاستثمار. وقد نشأ هذا العرف بعد صدور المرسوم 111/1952 الذي كرّس مبدأ التمديد الحكمي دون تحديد مدة، بعد أن كانت المراسيم السابقة تمدد لآجال قصيرة فقط. فقد نصت المادة الخامسة منه على عدم الحكم بالتخلية إذا رغب المستأجر البقاء بعد انتهاء العقد، محدداً حالات الإخلاء بدقة. وبما أن النصوص اعتُبرت من النظام العام، تولدت الحاجة إلى دفع الفروغ عند بدء العلاقة الإيجارية.

ظل العمل بالمرسوم قائماً حتى صدر القانون 6 لعام 2001 الذي أعاد مبدأ العقد شريعة المتعاقدين للعقود اللاحقة له، ثم القانون 10 لعام 2006، والقانون 20 لعام 2015 الذي منح المالك 10% عند كل تنازل عن الإيجار. وبذلك تلاشت الحاجة للفروغ وانتفى العرف تدريجياً.

اللجنة المشكلة لدراسة الإشكاليات

بتاريخ 12/6/2025 شكّلت وزارة العدل لجنة لدراسة الصكوك المتعلقة بالإيجارات ذات التمديد الحكمي وتقديم مقترحات تحقق العدالة بين المالك والمستأجر. ودور هذه اللجنة استشاري بحت، إذ لا تعديل للتشريعات إلا بمثلها. ومع ذلك فإن توصياتها قد تكون أساساً لمشروع قانون جديد.

ونرى أن على اللجنة مراعاة المبادئ الآتية:

  1. التمييز بين من سدد الفروغ ومن لم يسدده، إذ يختلف المركز القانوني، ولا يجوز إصدار حكم عام، بل يترك للقضاء سلطة تقدير كل حالة وفق استيفاء الفروغ من عدمه.
  2. القرينة على استيفاء الفروغ، إبرام المالك عقداً بعد 1952 قرينة على قبضه للفروغ، حتى من دون دليل خطي، ويمكنه إثبات العكس فقط.
  3. نقل التكليف المالي، قرينة أخرى على قبض الفروغ، إذ لا يتم إلا بتصريح المالك، ويُفترض استيفاء المقابل قبل إجراء التصريح.
  4. العرف التجاري، المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ويجوز للمحكمة الاستعانة بالخبرة لإثباته.
  5. القانون 20 لعام 2015، أعطى المالك نسبة من كل تنازل، ما قد يؤدي مع الوقت إلى استيفاء قيمة العقار وربما أكثر، مع بقاء الملكية باسمه واستمراره بالانتفاع.
  6. شهرة المتجر، يجب تقدير ما أضفاه المستأجر من قيمة وشهرة على العقار عند تقدير التعويض.
  7. القانون التجاري، يتيح بيع المتجر مستقلاً عن العقار، ما يستوجب احترام الحقوق المكتسبة للمشترين السابقين منعاً لزعزعة الثقة بالاستثمار والقوانين.
  8. التخمين، لا يجوز مساواة العقار الخاضع للتمديد والمسدد فروغه بعقار شاغر، لأن المالك قد تقاضى فروغاً يقارب أحياناً قيمة العقار.
  9. القضاء هو المرجع، لا يجوز إنهاء العقود بإرادة طرف واحد أو حتى بقرار جهة عامة، فذلك يلغي دور القضاء ويمس استقرار العقود ويضر بالثقة.

البعد الاجتماعي والثقافي

جانب مهم أن نسبة كبيرة من هذه العقارات عائدة إلى وزارة الأوقاف، وتقع في مراكز المدن القديمة. وهذه المحلات صارت جزءاً من الذاكرة الشعبية والتراث الحضاري. وزيادة ريعها تعود بالنفع العام، لكن قرارات الإخلاء قد تؤدي إلى تغيير الطابع التاريخي والثقافي للمدن، وإلى حلول مستثمرين غرباء يغيرون هويتها وديمغرافيتها. كما أن ارتفاع الإيجارات سيزيد التكاليف على المستهلكين، أي على المواطنين.

المطلوب تحقيق التوازن

حل مشكلة الفروغ والتمديد الحكمي يستوجب تحقيق توازن عادل بين المالكين والمستأجرين، بمراعاة القرائن والأعراف والحقوق المكتسبة، وعدم التضحية بالجانب الاجتماعي والثقافي في سبيل المكاسب المادية.

كما يجب أن يبقى القضاء المرجع الوحيد للفصل في النزاعات بما يضمن العدالة ويحفظ الثقة بالقانون.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1246