السياسة النقدية في سورية... التعويم المدار بين النظرية والتطبيق
تشكل السياسة النقدية في الدول النامية، ولا سيما تلك التي تعاني من أزمات اقتصادية عميقة، محوراً أساسياً في تحديد مسارات الاقتصاد الكلي. وفي الحالة السورية، أعلن مصرف سورية المركزي اعتماده سياسة «التعويم المدار» للعملة المحلية، مع طرح مرتقب لعملة جديدة وحذف صفرين من الليرة السورية. غير أن المعطيات القائمة– من غياب الاحتياطي الأجنبي إلى الأدوات المستخدمة– تثير تساؤلات جدية حول مدى واقعية هذه السياسات وقدرتها على استعادة الاستقرار النقدي.
التعويم المدار في النظرية والتطبيق
بحسب الأدبيات الاقتصادية، يقوم التعويم المدار على ترك سعر الصرف يتحدد بالعرض والطلب، مع احتفاظ المصرف المركزي بحق التدخل في السوق لاحتواء تقلبات مفرطة. لكن نجاح هذا النظام مشروط بامتلاك احتياطي معتبر من العملات الأجنبية، يسمح بامتصاص الصدمات عبر عمليات البيع والشراء.
في التجربة السورية، اعترف المصرف المركزي بعدم توفر احتياطيات أجنبية كافية، ما يجعل التدخل الفعلي غير ممكن. وبذلك يصبح «التعويم المدار» في التطبيق أقرب إلى التعويم الحر، حيث يتحدد السعر عملياً في السوق الموازي، وهو ما يتنافى مع جوهر الفلسفة التي يقوم عليها النظام المعلن.
أدوات السياسة النقدية الحالية
يقتصر تدخل المصرف المركزي السوري على أدوات كمية وإدارية داخلية، تشمل:
- تقييد السيولة بالليرة عبر حبس الكتلة النقدية المتداولة.
- فرض سقوف على السحب والتحويلات للحد من السيولة الورقية.
- ترك تسعير القطع الأجنبي للسوق الموازي بحكم غياب القدرة على الاستقطاب.
هذه الأدوات، وإن كانت قد تخفف جزئياً من الطلب على الدولار، إلا أنها تؤدي إلى نتائج جانبية سلبية أبرزها: الانكماش الاقتصادي- تراجع الثقة بالنظام المصرفي- وزيادة الاعتماد على النقد الأجنبي والدولرة الرسمية وغير الرسمية.
التأثيرات الاقتصادية المترتبة
بداية يمكن عرض بعض التأثيرات السلبية على الإنتاج الصناعي، ومنها:
- ارتفاع تكاليف الاستيراد، فمع غياب قدرة المركزي على توفير القطع الأجنبي، تعتمد المصانع على السوق الموازي، ما يرفع تكاليف استيراد المواد الأولية والآلات.
- صعوبة التمويل والمتمثلة بالقيود على السحب والسيولة التي تحد من قدرة الصناعيين على تمويل دورات الإنتاج.
- انكماش الإنتاج وهو النتيجة الطبيعية لتقليص خطوط الإنتاج أو توقف بعضها، وهو ما ينعكس بانخفاض العرض المحلي وارتفاع الأسعار.
أما على الإنتاج الزراعي فيمكن عرض بعض التأثيرات التي نلخصها بالآتي:
- ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية (أسمدة، بذور، محروقات) بسبب ارتباطها بالدولار.
- ضعف القدرة على التمويل الموسمي نتيجة سياسات حبس السيولة.
- تراجع الإنتاجية ما يؤدي إلى انخفاض المعروض من السلع الزراعية، وزيادة اعتماد السوق على الاستيراد في ظروف شح القطع الأجنبي.
وعلى الاقتصاد الكلي فتتكثف التأثيرات السلبية بما يلي:
- انكماش اقتصادي، فنتيجة لتراجع الإنتاجين الصناعي والزراعي، يتقلص الناتج المحلي الإجمالي.
- تسارع التضخم وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج ونقلها إلى المستهلك النهائي.
- توسع السوق الموازي كبديل عن النظام الرسمي، ما يقوض فعالية السياسة النقدية.
- تعمق الدولرة، إذ يسعى الأفراد والمؤسسات إلى التحوط من انهيار الليرة عبر التعامل بالدولار أو الذهب.
وأخيراً التأثيرات السلبية على المواطن التي نلخصها بالنقاط الآتية:
- انخفاض القوة الشرائية، فالتضخم المتسارع يقلص من قدرة الأجور على تلبية الاحتياجات الأساسية.
- تراجع فرص العمل، فمع انكماش النشاط الصناعي والزراعي، يزداد معدل البطالة.
- انعدام الثقة بالعملة، حيث يفضّل المواطنون تخزين القيمة بعملات أجنبية أو سلع عينية.
- تدهور مستويات المعيشة، حيث يتحول العبء النقدي إلى عبء اجتماعي يتجلى في الفقر واتساع الفجوة بين الدخول والأسعار.
بغياب الإصلاحات الشاملة سيستمر عدم الاستقرار
تشير الدراسات والأبحاث الاقتصادية والتجارب الدولية إلى أن التعويم المدار يتطلب احتياطيات أجنبية معتبرة، بينما السياسة المطبقة في سورية تعتمد على أدوات تقييد السيولة فقط.
هذا التوجه انعكس سلباً على الإنتاج الصناعي والزراعي والاقتصاد الكلي والمواطن، في ظل تضخم متصاعد وفقدان الثقة بالعملة.
أما إصدار عملة جديدة مع حذف الأصفار، فهو إجراء إداري ونفسي أكثر من كونه إصلاحاً نقدياً حقيقياً.
ومن دون إصلاحات عميقة وشاملة، فإن السيناريو الأرجح هو استمرار عدم الاستقرار النقدي وتوسع السوق الموازي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1242