السورية للتجارة... بين السيادة المهدورة وتغوّل السوق
فرح شرف فرح شرف

السورية للتجارة... بين السيادة المهدورة وتغوّل السوق

في خطوة صادمة تكشف عمق الانزلاق نحو «اقتصاد السوق والخصخصة المبطنة»، أعلنت السورية للتجارة عن تنظيم مزاد علني لتأجير وتشغيل عقاراتها وأصولها (1500 عقار) في قلب الأسواق التجارية الرئيسية للمدن، بحجة «تعزيز الموارد الذاتية بما يخدم الأهداف الاقتصادية الوطنية». هكذا تحدث معاون المدير العام معاذ هنداوي بتاريخ 11 آب 2025، وكأن التخلي عن الدور الأساسي لأكبر مؤسسة اقتصادية عامة في البلاد مجرد تفصيل ثانوي!

فبدلاً من أن تظل المؤسسة أداة تدخل إيجابي في السوق المحلي، تطرح المواد الأساسية للمواطنين بأسعار معقولة، وتضغط على كبار التجار وتمنع الاحتكار، يجري اليوم تفكيكها وتحويلها إلى أصل ريعي معروض للاستثمار. النتيجة واضحة: تسليم مفاتيح السوق للقطاع الخاص، وترك المستهلكين فريسة لجشع لا سقف له.

تغييب الدور التنظيمي للمؤسسة

لم تكن «السورية للتجارة» مجرد شركة تجارية، بل ذراعاً تنظيمية تضبط حركة الجملة ونصف الجملة والمفرق، خصوصاً في السلع الأساسية: الغذاء، اللحوم، الخضار، القرطاسية، وحتى الأدوات الكهربائية والسلع المعمرة. تعطيل هذا الدور يعني ببساطة إطلاق العنان لتوحش السوق، في وقت وصلت فيه القدرة الشرائية للسوريين إلى أدنى مستوياتها، وانهارت المداخيل أمام أسعار تتضاعف يومياً.

عقارات في قلب المدن... فرصة للقطاع الخاص وخسارة للناس

ما يُعرض اليوم للاستثمار ليس مجرد مخازن وصالات ومراكز توزيع ووحدات تبريد، بل عقارات في مواقع حيوية داخل الأسواق الرئيسية للمدن. أي إن الدولة تفرّط بأصول استراتيجية تشكل نقاط ارتكاز لضبط السوق، وتحوّلها إلى فرصة ذهبية بيد قلّة من المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، ليحتكروا سلاسل التوريد والتوزيع. وبدلاً من تخفيف الأعباء عن المواطنين، سيُفتح الباب أمام رفع أسعار الجملة بما يثقل كاهل التجار الصغار، ويصل في النهاية إلى المستهلكين المنهكين.

كارثة على سوق العمل

أما وعود «إعادة توزيع الموظفين على وظائف إشرافية»، فهي لا تعدو كونها ذرّ رماد في العيون. المستثمرون الجدد لن يحتفظوا بالآلاف من عمال الصالات والمخازن. بل إن موجة البطالة لن تقتصر على موظفي المؤسسة، بل ستضرب مورّديها، عمّال النقل، الباعة الصغار، وحتى أسواق التجزئة. ما يحدث أشبه «بـدومينو» يهدد قطاعات كاملة بالانهيار.

السيادة الاقتصادية على مذبح الخصخصة

التبرير الجاهز لكل هذا التفريط هو الحديث عن «فساد إداري سابق» أو «تخفيف الأعباء عن الدولة». لكن الحقيقة أن ما يجري هو تدمير ممنهج لأداة الدولة الوحيدة التي كانت قادرة على التدخل في السوق وضبط الأسعار وحماية المواطنين.
فالتفريط «بالسورية للتجارة» ليس مجرد قرار إداري، بل ضربة مباشرة للسيادة الاقتصادية، وتجريد الدولة من قدرتها على أن تكون شبكة أمان وقت الأزمات.

ضربة للفقراء... مكسب للأغنياء

خروج المؤسسة من المشهد يعني ببساطة ارتفاع الأسعار أكثر فأكثر، وتحوّل السلع الأساسية إلى كماليات لا يقدر عليها سوى القلّة. إنها ضربة جديدة للطبقات الأفقر، التي لن تجد بعد الآن من يوازن بين مصالحها ومصالح كبار التجار. وباسم «الاستثمار»، يُسلّم السوق للمحتكرين، ويُترك المواطن السوري تحت رحمة الاستغلال والتجويع.
باختصار يمكن القول إن بيع عقارات السورية للتجارة في قلب المدن ليس استثماراً، بل خيانة اقتصادية، ودفناً نهائياً لأي وهم بقدرة الدولة على التدخل لصالح الناس.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239