التسوّل في سورية... عار الفقر في وجه دولة تهرّبت من واجباتها
بين حين وآخر، تطالعنا الجهات الرسمية في المحافظات السورية بخطط ميدانية لمعالجة ظاهرة التسوّل، تتضمن الرصد والمعالجة والدعم وضبط الشبكات المنظمة. وللوهلة الأولى، يبدو الحديث جاداً، لكنه ما يلبث أن يتهاوى أمام حقيقة صارخة أن التسوّل ليس ظاهرة طارئة، ولا سلوكاً فردياً شاذاً، بل نتيجة طبيعية ومباشرة لانهيار المنظومة الاقتصادية والاجتماعية في سورية، وهي منظومة ساهمت الدولة نفسها في تدميرها، ثم تنصّلت من واجبها تجاهها.
الفقر المعمّم... أصل الداء
ما يحدث ليس مجرد تسوّل، بل تعبير علني ومؤلم عن تفشي الفقر إلى درجة تحوّل فيها الإنسان إلى ظلٍّ لجوعه. وما دام أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر وفق تقارير دولية، فمن غير المنطقي الحديث عن معالجة التسوّل بمعزل عن معالجة الفقر نفسه.
التسوّل في سورية لم يعد حالة فردية، بل أصبح ظاهرة جماعية، تشمل أطفالاً لم تطأ أقدامهم المدارس قط، ونساء أُجبرن على الشارع بحثاً عن دواء أو لقمة، وكبار سنّ فقدوا شبكات الدعم والرعاية.
أصبح الشارع هو المؤسسة الوحيدة المتاحة لفقراء هذا البلد، فيما تتفرّج الدولة على تفكك المجتمع دون أن تضع خطة وطنية حقيقية تنقذ ما تبقّى.
استغلال منظّم وتشابك للظواهر السلبية
الفراغ الذي خلّفته الدولة في أداء واجباتها، ملأته شبكات منظمة تستغل المتسوّلين، وتعيد تدويرهم ضمن شبكات استغلال اقتصادي واجتماعي. أطفال يُستخدمون لجلب الشفقة والمزيد من المال، نساء يتحركن وفق تعليمات، و«معلّمون» يجمعون الغلّة في نهاية اليوم.
لكن الأخطر من كل هذا هو ما تولّده هذه الظواهر من نتائج مستقبلية مدمّرة... جيل بلا تعليم، بلا حماية، بلا أمل.
فالتسوّل ليس مجرد نتيجة للفقر، بل هو نقطة التقاء لعشرات الظواهر الأخرى، مثل: عمالة الأطفال، التسرب من المدارس، العنف الأسري، تفكك الروابط الاجتماعية، انهيار القيم، بل وحتى الجريمة لاحقاً. إنها حلقة مغلقة، يُولد فيها الفقر، فينجب تسوّلاً، فيُستغلّ الأطفال، فيفقدون التعليم، فيكبرون مهمّشين، ثم يُعاد إنتاج فقرهم من جديد، ويستمرّ الدمار.
الهروب من الحقيقة
في المقابل، تتعامل الجهات الحكومية مع الظاهرة بوصفها «تشوّهاً بصرياً» يشوّه صورة المدن، لا بوصفها مأساة وطنية تنذر بمستقبل مظلم. يتم التركيز على الحملات الأمنية، و«الضبط الميداني»، وتصوير المتسوّلين وكأنهم مجرمون أو غرباء عن النسيج المجتمعي. تُنسى الحقائق، وتُدفن الأسئلة الكبرى: من المسؤول؟ أين الدولة؟ أين الخطط الاقتصادية؟ أين برامج الدعم؟ أين الأجور؟ وأين الخدمات؟ لا جواب.
ما نشهده ليس مجرد فشل في إدارة ملف التسوّل، بل هو تهرّب صريح من المسؤولية.
فالدولة لا تستطيع أن ترفع يدها عن الصحة والتعليم والعمل ثم تسأل لماذا يتسوّل الناس.
والحكومة التي تسكت عن انهيار الليرة والأسعار والرواتب لا يحق لها محاسبة من اضطر للشارع.
مستقبل بلا أمل إن استمرّ الإنكار
الاستمرار في تجاهل الجذور الحقيقية للكارثة لا يؤدي سوى إلى ترسيخها. وإذا لم تبدأ المعالجة من فوق، برؤية سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، فلن تكون النتيجة إلا مزيداً من الانهيار. الظواهر السلبية لا تموت وحدها. إنها تتكاثر وتتراكم، وتتحوّل بمرور الوقت إلى أمراض مجتمعية عضوية، لا تنفع معها المسكّنات ولا ضبوط المكافحة.
إن استعادة «الصورة الحضارية» التي تتغنّى بها بعض التصريحات الرسمية لا تكون بإخفاء الفقر، بل بمواجهته. لا تُبنى الحضارات على الرخام والزينة، بل على العدالة والكرامة والفرص المتساوية. وأي محاولة لمعالجة التسوّل دون معالجة الفقر هي كمن يغسل الواجهة ويترك أساس البيت يتآكل.
التستر على المأساة لا يحلها
التستّر على المأساة لا يحلّها، والسكوت عن المسؤولية لا يعفي منها. ومن المعيب أن يُجرّم الجوع، فيما تُترك الدولة بمنأى عن الحساب.
آن الأوان للاعتراف أنه لا حلّ لظاهرة التسوّل إلا بحلّ الفقر. ولا عدالة دون دولة تحترم نفسها وشعبها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1239