الصندوق السيادي السوري... الطموح الاقتصادي والفراغ الدستوري

الصندوق السيادي السوري... الطموح الاقتصادي والفراغ الدستوري

صدر المرسوم رقم 113 بتاريخ 24 حزيران 2025، والذي نص على إحداث «الصندوق السيادي» في الجمهورية العربية السورية، كمؤسسة ذات طابع اقتصادي، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية. ويهدف هذا الصندوق إلى تنفيذ مشاريع تنموية وإنتاجية واستثمارية، وتحويل الأصول الحكومية «غير المفعّلة» إلى أدوات للتنمية الاقتصادية.

ورغم الطابع الطموح لهذه الخطوة، والتي توحي بنية تحديث الإدارة المالية للدولة وتحفيز الاستثمار، إلا أن المرسوم يطرح إشكالات عميقة تتعلق بمدى شرعيته، ومدى التزامه بمبدأ الحفاظ على المال العام، خاصة في ظل غياب سلطة تشريعية منتخبة، ودستور دائم ينظم العلاقة بين السلطات، ويكفل الرقابة والمساءلة.

الجوانب الإيجابية المحتملة للصندوق

تحويل الأصول الحكومية غير المستغلة إلى مشاريع إنتاجية يمكن أن يسهم في تقليص العبء المالي للدولة، ورفع كفاءة استخدام الموارد العامة. أراضٍ غير مستثمرة أو منشآت معطلة قد تتحول إلى مصادر دخل وفرص عمل.

تمتُّع الصندوق بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي قد يتيح سرعة في اتخاذ القرار، ومرونة في التعاقدات، مقارنة بالمؤسسات الحكومية البيروقراطية.

الصندوق لا يعتمد على الأموال التي تخصصها الدولة فقط، بل يسعى إلى تمويل ذاته من عائدات مشاريعه أيضاً، ومن الهبات والتبرعات، ما يخفف الضغط على الموازنة العامة.

بحسب ما ورد، يعتمد الصندوق على نظام حوكمة صارم، يتضمن تقارير ربع سنوية وسنوية، وتدقيقاً من جهات مستقلة، إضافة إلى أدوات رقابة آنية تهدف إلى تصحيح الأخطاء قبل وقوعها.

الأصول الحكومية والمال العام... حدود لا يجب تجاوزها

ما هي الأصول الحكومية؟

تشمل الأصول الحكومية: العقارات- الأراضي- المنشآت العامة- الشركات الحكومية- المعدات- البنى التحتية- والحقوق المالية والقانونية التي تملكها الدولة.

هذه الأصول هي ملكية عامة للشعب، تمثل تراكماً تاريخياً من الاستثمارات، والضرائب، والعمل الوطني، ولا يجوز التصرف بها خارج الأطر القانونية والدستورية.

ومن مخاطر التفريط بهذه الأصول، تحت غطاء الاستثمار، فتح الباب أمام «تحويل الأصول» إلى مشاريع استثمارية، دون رقابة تشريعية، والذي قد يؤدي إلى:

  • خصخصة غير معلنة لأصول استراتيجية.
  • نقل ملكية مال عام إلى شركات خاصة أو جهات مجهولة دون شفافية.
  • بيع ممتلكات الدولة بأقل من قيمتها في ظل غياب معايير محاسبية دقيقة.

لذلك من الهام وطنياً التحذير من استخدام المصطلحات الفضفاضة، فمصطلح «الأصول غير المفعّلة» قد يُستخدم بشكل واسع لتبرير التخلص من أصول مهمة تحت ذريعة عدم الاستفادة منها حالياً، في حين أن بعض هذه الأصول قد تحمل قيمة استراتيجية لا تُقاس بالقيمة السوقية فقط.

الإشكال الدستوري والشرعي للمرسوم

يمكن تكثيف الإشكالات بهذا الصدد بالنقاط الرئيسية الآتية:

  • تم إصدار المرسوم من قبل سلطة انتقالية، لا تملك التفويض الشعبي الكامل، ولا تستند إلى دستور دائم. هذا يثير تساؤلات قانونية جوهرية حول شرعية اتخاذ قرارات مصيرية تمس مستقبل الاقتصاد الوطني.
  • غياب السلطة التشريعية المنتخبة، حيث لا توجد في سورية حالياً سلطة تشريعية تمثل إرادة الشعب وتقوم بوظيفتي الرقابة والمساءلة، ما يجعل الصندوق خارج نطاق التقييم الشعبي والمؤسسي.
  • مخالفة مبدأ الفصل بين السلطات، فبحسب المرسوم، الصندوق يرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، وتُعرض تقاريره عليها فقط، ما يتعارض مع مبدأ التوازن بين السلطات، ويحوّل المال العام إلى أداة ضمن صلاحيات جهة تنفيذية واحدة.

التحدي الحقيقي... من يحاسب؟

إن غياب آليات مساءلة واضحة يثير التساؤلات الآتية:

  • من يراقب تحويل الأصول الحكومية؟
  • من يضمن أنّ اختيار المشاريع لا يخضع لمحاباة أو فساد؟
  • هل سيتم إعلان قوائم الأصول المنقولة إلى الصندوق؟
  • وهل يحق للمواطنين أو الإعلام أو المنظمات الرقابية الاطلاع على تقارير الصندوق؟

كل هذه الأسئلة تبقى بلا إجابة في ظل غياب إطار قانوني متكامل للصندوق، وغياب إرادة سياسية لمَأسَسَة الشفافية.

نماذج عالمية بين النجاح والانهيار

تُظهر التجارب الدولية أن فعالية الصناديق السيادية لا تتوقف على وفرة الموارد، بل على الإطار المؤسسي والقانوني الذي يحكمها.

فبينما حققت دول مثل النرويج وسنغافورة نجاحات بارزة من خلال صناديقها السيادية بفضل الشفافية العالية، والرقابة البرلمانية، والاستقلال عن السلطة التنفيذية، شهدت دول أخرى مثل فنزويلا وليبيا والعراق تجارب مأساوية، حيث تحولت الصناديق إلى أدوات لتمويل مشاريع سياسية قصيرة الأجل، أو وقعت ضحية للفساد وسوء الإدارة في ظل غياب المساءلة الحقيقية.

إن هذه الأمثلة تؤكد أن إنشاء صندوق سيادي في بيئة تفتقر إلى دستور دائم، وسلطة تشريعية منتخبة، وآليات رقابة مستقلة، لا يشكل فرصة اقتصادية فحسب، بل خطراً محتملاً على المال العام إذا لم يُضبط بقوانين واضحة وضمانات صارمة تمنع التفريط بثروات الشعب تحت غطاء الاستثمار أو التنمية.

توصيات وبدائل ممكنة

  • تعليق تفعيل المرسوم إلى حين توفر إطار دستوري دائم، أو على الأقل إصدار قانون عبر هيئة تشريعية مؤقتة أو انتقالية مع مشاورات شعبية.
  • وضع تعريف دقيق ومُلزِم لعبارة «الأصول الحكومية غير المفعلة»، وتحديد آليات تقييمها وتحويلها.
  • إنشاء هيئة رقابية مستقلة من خبراء اقتصاديين وقانونيين، تُشرف على عمل الصندوق وتصدر تقاريرها علناً.
  • حصر التصرف بالأصول الاستراتيجية بنص تشريعي، مع إلزامية طرح المشاريع الكبرى للمناقصة العلنية.
  • ضمان نشر التقارير المالية وتفاصيل المشاريع بشكل شفاف للمواطنين ووسائل الإعلام.

الفرصة والمخاوف

الصندوق السيادي، كأداة اقتصادية، قد يحمل في طياته فرصاً كبيرة للنهوض بالاقتصاد السوري، لكنه في شكله الحالي، يُثير مخاوف حقيقية من التفريط بالمال العام، وتكريس مركزية مالية غير خاضعة للرقابة. لا يُبنى اقتصاد مستدام في الظلام، بل عبر الشفافية، والمساءلة، واحترام إرادة الشعب عبر مؤسساته الدستورية.

فالمطلوب ليس صندوقاً سيادياً بلا سيادة شعبية، بل إدارة عادلة ومشروعة لثروة السوريين جميعاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234