مشاريع السكن وحديث حاكم المركزي... أولوية مقلوبة في زمن الانهيار النقدي
في ظل ظروف اقتصادية معقدة، وعدم استقرار في قيمة الليرة السورية، خرج حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية في منشور عبر صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 12 تموز 2025 ليذكرنا بمشروع طموح وصفه «بالنظام المتكامل للتمويل العقاري» بُني عليه القانون رقم 39 لعام 2009 الخاص بالتمويل العقاري، مستنداً إلى نماذج دولية (الدنماركية والكندية) لتوفير مساكن ملائمة للشباب السوري.
الطرح المستجد لحاكم المصرف المركزي، رغم وجاهته من حيث الشكل، وتثمينه لمبادرة وزير المالية بصفته رئيس هيئة الإشراف على التأمين لإعادة تفعيل دور الهيئة، وإشارته إلى أن «مصرف سورية المركزي سيقدّم الدعم الكامل لهذه الجهود وفق الأطر والصلاحيات المتاحة، وبما ينسجم مع المعايير المصرفية الدولية»، يثير تساؤلات ملحة حول توقيته، وجدواه، ومخاطره، وخاصة في ظل غياب المصرف المركزي عن أداء مهامه الأساسية في إدارة السياسة النقدية، وضبط السوق، وكبح التضخم.
طرح غير واقعي في بيئة اقتصادية مختلّة
يتضمن المشروع، المعاد إحياؤه من قبل الحاكم، عدة محاور، أبرزها: تأسيس هيئة مستقلة لتنظيم التمويل العقاري- إطلاق مؤسسة وطنية للتمويل العقاري- تطوير مهنة التقييم العقاري- وتمكين شركات تمويل خاصة- إلى جانب السعي للحصول على تمويل دولي لإعادة إعمار المنازل المدمّرة.
المقترح لا يخلو من الطموح، لكنه يُطرح في وقت تعاني فيه البلاد من هشاشة اقتصادية عميقة تتجلى بالآتي:
- أسعار صرف متقلبة وفوارق كبيرة بين السعر الرسمي والموازي.
- انهيار الثقة بالعملة المحلية واتساع نطاق الدولرة في السوق.
- غياب فعلي لدور المصارف العامة والخاصة في جذب التحويلات أو ضبط تداول العملات الأجنبية.
- تضخم مستفحل ينهك دخول المواطنين وقدرتهم على الادّخار أو الاستدانة.
إن التفكير في تمويل عقاري طويل الأجل في ظل هذه المعطيات يبدو كمن يحاول بناء هيكل سكني فاخر على أساس متصدّع.
والأخطر في طرح الحاكم إشارته إلى أن «الأضرار التي لحقت بعدد كبير من المساكن تتطلب توفير قروض ميسرة مدعومة من المؤسسات الدولية المانحة، بما يمكّن المتضررين من إعادة بناء منازلهم، مؤكداً أهمية دعم هذا التوجه من مختلف الجهات الحكومية والمالية».
مخاطر التوسّع في مهام غير نقدية
دخول المصرف المركزي في دعم المشاريع السكنية والتمويل العقاري، وفق النموذج الطموح المعلن، قبل معالجة الأزمة النقدية، قد يحمل عدة مخاطر اقتصادية ومؤسساتية يمكن تلخيصها بالنقاط الآتية:
خلق فقاعة عقارية ومخاطر مصرفية، فبظل غياب سعر صرف مستقر، وأمام بيئة دولارية غير منظمة، فإن أي تمويل عقاري بالليرة سيقود إلى اضطراب في قيم العقارات، وقد يتسبب في مديونية مفرطة للأفراد وعجز البنوك عن تغطية مخاطر القروض.
تغذية التضخم بدلاً من احتوائه. فإطلاق تمويل واسع النطاق دون تحكم بالعرض النقدي، ووسط غياب الإنتاج الحقيقي، سيزيد من الطلب الكلي دون مقابل، ما يؤدي إلى دفع الأسعار صعوداً، أي تعميق التضخم بدل كبحه.
فتح الباب أمام المضاربة والمحاباة، فتمكين شركات خاصة ضمن منظومة رقابية ضعيفة قد يؤدي إلى استغلال ثغرات في التمويل العقاري لتحقيق أرباح سريعة على حساب المواطن، وخلق شبكات نفوذ جديدة في السوق العقاري.
توريط السياسة النقدية في رهانات دولية، فالحديث عن الاستعانة بمصادر تمويل دولية في ظل ضبابية رفع العقوبات وتراجع السيادة الاقتصادية يضع البلاد أمام التزامات قد تُستخدم كورقة ضغط سياسية، أو تترافق مع شروط تقشفية موجعة.
الدور الغائب... أولوية الاستقرار النقدي
المصرف المركزي في أي بلد يُعد الجهة المسؤولة أولاً عن حماية استقرار العملة، وتنظيم السوق النقدي، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب على النقد الأجنبي. إلا أن الواقع السوري اليوم يكشف عن غياب هذا الدور بشكل شبه كامل.
لم يعد للمركزي قدرة على ضبط سعر الصرف، ولا على حماية الليرة من الانهيار. كما أن معظم التحويلات تدخل عبر السوق الموازي الذي يعرض أسعاراً نهبوية دون عتبة السعر الرسمي، بينما المصارف العامة والخاصة غائبة عن المنافسة. والمواطن بدوره لم يعد يرى في الليرة وسيلة ادخار أو تداول، ما يكرّس الانفلات النقدي.
الأخطر من ذلك أن المركزي يُظهر ميلاً إلى أداء أدوار تنفيذية قطاعية، مثل مشاريع التطوير العقاري، في وقت يفترض أن يكرّس كل أدواته لمهمة واحدة هي استعادة الثقة بالليرة السورية.
ما الذي يجب أن يُقدَّم أولاً؟
قبل الخوض في مشاريع التمويل العقاري، مع عدم التقليل من أهميتها طبعاً، من الضروري أن يعود المصرف المركزي إلى مهمته الجوهرية، وهي إصلاح البيئة النقدية التي تُعد الشرط المسبق لأي مشروع اقتصادي مستقر. ومن ذلك:
- تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
- محاربة السوق السوداء من خلال استقطاب العملات عبر القنوات الرسمية بأسعار واقعية.
- كبح جماح التضخم بإجراءات نقدية صارمة وشفافة.
- تعزيز دور المصارف المرخصة العاملة (عامة وخاصة) كوسيط موثوق وآمن.
- وقف تآكل ثقة المواطن بالليرة، الذي يشكّل أخطر تهديد على المدى البعيد.
ضبط البوصلة وترتيب الأولويات
مشروع «بيت لكل شاب سوري» حق وهدف نبيل لا شك، لكن الطريق إلى تحقيقه لا يمر عبر تجاوز المهام الأساسية للمصرف المركزي أو التغاضي عن انهيار السياسة النقدية. فلا يمكن للاقتصاد أن ينهض، ولا للمشاريع أن تنجح، في بيئة تُدار فيها العملة بلا سيادة، والمصارف بلا دور، والسوق بلا رقابة.
إن بناء المنازل لا يجب أن يسبق ترميم أسس الاقتصاد. وعلى المصرف المركزي أن يضبط بوصلته، ويعيد ترتيب أولوياته، ليؤسس لواقع نقدي مستقر، يُبنى عليه كل شيء لاحقاً- بما في ذلك البيوت.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1234