السوق الدوائي... انفلات سعري وغياب للرقابة يدفع المرضى نحو الخطر

السوق الدوائي... انفلات سعري وغياب للرقابة يدفع المرضى نحو الخطر

في ظل الانفلات العام الذي يعيشه السوق الدوائي في سورية، يعاني المواطنون من تفاوت صارخ في أسعار الأدوية بين صيدلية وأخرى، لا يُعزى فقط إلى اختلاف الشركات والمصادر، بل يتعداه إلى تفاوت في مستويات الاستغلال التجاري.

فقد أصبحت بعض الأدوية تباع بهوامش ربح خيالية دون وجود أي ضوابط رقابية، ما يضع حياة المرضى، وخاصة المصابين بالأمراض المزمنة والخطرة، في مهب الريح.

غياب الرقابة وتعدد المصادر

شهدت السوق الدوائية بعد عام 2011 تحولاً جذرياً في آلية تأمين واستيراد الأدوية، حيث خرجت بعض المعامل المحلية من الخدمة، وتوقف الاستيراد الرسمي عبر وزارة الصحة، وظهرت بدائل عبر المستودعات الخاصة أو التهريب، مما فتح الباب أمام دخول أنواع دوائية من مصادر متعددة، لا تخضع جميعها لمعايير موثوقة من حيث الجودة أو المواصفة. الأدوية المهربة، والتي تُباع علناً في كثير من الصيدليات، لا تحمل أي إثباتات رسمية حول فعاليتها أو أمانها، ومع ذلك تُباع بأسعار مرتفعة دون رقابة.

تفاوت كبير في الأسعار

تُظهر جولة بسيطة على عدد من الصيدليات أن الدواء نفسه قد يُباع بأسعار متباينة رغم أنه من النوع نفسه. هذا التفاوت لا يُبرر باختلاف الشركة أو الجودة فقط، بل يعود في كثير من الحالات إلى جشع بعض أصحاب الصيدليات واستغلالهم لحاجة المرضى، في ظل غياب جهة رقابية فعالة تضبط التسعير وتُحاسب المخالفين.

معاناة المرضى المزمنين... ألم وتكلفة

من أكثر المتضررين من هذا الواقع هم المرضى المزمنون، وخصوصاً المصابون بأمراض خطرة ومكلفة مثل السرطان، السكري، أمراض القلب، الصرع، والأمراض المناعية كمرض كرون. هؤلاء المرضى بحاجة إلى علاج مستمر ومراقبة دورية مدى الحياة، ما يفرض عبئاً مالياً لا يُحتمل في ظل الفقر المعمم.

لمحة عن معاناة المرضى المزمنين

مرض كرون هو أحد أمراض الأمعاء الالتهابية المزمنة، ويتطلب العلاج منه مزيجاً من الأدوية المناعية والكورتيزونات، وأحياناً الأدوية البيولوجية الباهظة.

في السوق الحالي، تتراوح تكلفة العبوة الواحدة من هذه الأدوية بين 80 إلى 220 ألف ليرة سورية حسب المصدر، والمريض غالباً يحتاج من 1,5 إلى 3 عبوات شهرياً، حسب درجة وشدة المرض، مما يعني أن تكلفته الشهرية قد تصل إلى 660 ألف ليرة سورية. هذا دون احتساب التحاليل الدورية التي تتراوح بين 200 إلى 500 ألف ليرة شهرياً.

بالنسبة لمرضى السرطان، فإن كلفة الجرعات الكيميائية أو الأدوية الحديثة قد تصل إلى ملايين الليرات شهرياً، أما مريض السكري، فهو بحاجة مستمرة للأنسولين، وأجهزة قياس السكر، وأدوية مرافقة، ما يكلّفه مئات الآلاف شهرياً. مرضى القلب والصرع يعانون كذلك من غلاء الأدوية الأساسية وندرتها أحياناً.

في ظل هذا العبء المالي، وفي واقع اقتصادي يتسم بالفقر العام وغياب الدخل الكافي، يضطر بعض المرضى إلى إيقاف العلاج أو تقليص الجرعات، ما يؤدي إلى تفاقم حالتهم الصحية، ويدفعهم نحو مضاعفات قد تُهدد حياتهم بشكل مباشر.

المطلوب إعادة الاعتبار لدور الدولة

أمام هذا الواقع، تصبح إعادة الاعتبار لدور الدولة في تأمين الرعاية الصحية والدوائية للمواطنين أمراً ملحاً لا يحتمل التأجيل. المطلوب ليس الرقابة على الأسعار فقط، بل أيضاً:

  • دعم الإنتاج المحلي للأدوية عبر المعامل العامة والخاصة، وتشجيع تصنيع الأدوية النوعية والمزمنة.
  • تفعيل الاستيراد الرسمي والمراقب للأدوية غير المنتجة محلياً، بما يضمن الجودة والمواصفة والسعر العادل.
  • ضبط سوق التهريب ومنع تداول الأدوية مجهولة المصدر أو غير المرخصة.
  • توسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل الشرائح الفقيرة ومرضى الأمراض المزمنة والخطرة، بحيث يُغطى جزء كبير من تكاليف العلاج والفحوصات.

كما أن وجود نظام دعم دوائي حقيقي، يربط بين حاجة المريض ووضعه المعيشي، يمكن أن يُنقذ حياة الآلاف ممن لا قدرة لهم على تحمّل تكاليف العلاج المستمر.

فسوق الدواء في سورية بحاجة إلى إصلاح جذري، يبدأ بإعادة فرض الرقابة، ويمر عبر تفعيل دور الدولة كمزوّد أول وأساسي للرعاية الصحية، وينتهي بإعادة بناء الثقة بين المريض والنظام الصحي، بعد أن فقدها تحت وطأة الفوضى والاستغلال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234