«القطن المُر» في شمال سورية... محصول غامض يكشف فراغاً مؤسساتياً خطيراً
يبدو أن ما يجري في ريف الرقة الشمالي لا يقتصر على قصة فلاح واجه محصولاً غريباً، بل يكشف عن خلل أعمق في البنية الزراعية والرقابية السورية، حيث تزرع آلاف الدونمات بنوع من القطن لا يعرف أحد مصدره، ولا طبيعته، ولا مخاطره المستقبلية، في ظل غياب واضح لأي دور رسمي حاسم أو حتى متابعة بحثية جادة.
تقرير «نورث برس» المنشور بتاريخ 27 أيار 2025، يفتح الباب على ملف يتجاوز حدود الحقول ليطال قضايا السيادة العلمية، والأمن الزراعي، والصحة العامة.
أرقام لافتة... وأسئلة أكبر
البيانات الأولية التي يوردها التقرير مدهشة:
إنتاجية القطن المُرّ تصل إلى 800 كغ للدونم، مقارنة بـ300 كغ في الأصناف المعروفة.
مقاوم للآفات بشكل استثنائي، «لا تقترب منه دودة القطن» كما أشار أحد الفلاحين.
هذه المعطيات تغري المزارعين، الذين يعانون أصلاً من نقص المياه وتراجع الدعم الزراعي، ما يفسر انتشاره السريع.
لكن خلف هذه الأرقام، تبرز أسئلة حرجة لا تجد إجابة:
من أين جاءت البذور؟
هل تم اختبارها مخبرياً؟
هل هي آمنة بيئياً؟
ولماذا لا توجد بيانات رسمية عنها؟
فرضيّتان علميتان... واحدة مريحة... وأخرى مقلقة
يطرح رئيس مكتب الوقاية في لجنة الزراعة بالرقة، المهندس حمود الشريدة، فرضيتين لتفسير سلوك النبات:
طفرة طبيعية، جعلت القطن غير مستساغ للحشرات بسبب تحوّلات في تركيب الثمار.
تعديل وراثي محتمل، تم إدخاله عن طريق شركات أو جهات تجري تجارب غير مرخصة في مناطق تفتقر إلى الرقابة.
الفرضية الثانية– رغم خطورتها– تبدو هي الأقرب، خصوصاً أن الصفات نفسها «استمرت بالظهور على مدى سنوات»، مما لا يتفق مع سلوك الطفرات الطبيعية التي غالباً ما تتلاشى تدريجياً في الأجيال النباتية التالية.
ساحة تجارب خارج السيطرة؟
التحليل الأبرز الذي يمكن استخلاصه من التقرير هو أن شمال سورية– في ظل غياب الدولة– بات بيئة خصبة لإجراء تجارب زراعية غير موثقة.
ورغم أن التقرير لا يقدّم دليلاً مباشراً، إلا أن المؤشرات الميدانية تتقاطع مع نماذج مشابهة في مناطق نزاع أخرى، حيث تستغل بعض الشركات ضعف الرقابة لاختبار أصناف معدّلة وراثياً بعيداً عن أعين القانون.
ما يثير القلق أكثر هو اعتراف المختصين المحليين بعدم القدرة على تحليل البذور بدقة، إذ يقول الشريدة: «نحتاج إلى أجهزة متطورة لتحليل الشيفرة الوراثية للنبات، وهذه غير متوفرة لدينا».
هذا التصريح يؤكد أن المنطقة لا تملك أدوات التحقق، ما يترك الفلاحين عرضة لترويج منتجات قد تكون محفوفة بالمخاطر، وتُنتج دون ضمانات صحية أو بيئية.
غياب الدولة... ثغرة علمية وسيادية
أخطر ما يكشفه التقرير ليس القطن الغامض بحد ذاته، بل غياب الدور المؤسسي للجهات الحكومية المختصة:
لا وجود لتصريحات من وزارة الزراعة.
لا تقارير من هيئات البحوث الزراعية.
لا بيانات عن حركة البذار أو الجهات التي تدخلها إلى السوق.
في بلد يُعد القطن فيه «ذهباً أبيض»، ويشكل حجر الأساس في الصناعات النسيجية، فإن ترك مصير هذا المحصول في أيدي السوق، والتجار، والتجارب غير الموثوقة، يُعد مخاطرة وطنية لا تغتفر.
تداعيات محتملة على البيئة والصحة العامة
حتى وإن ثبت أن هذا الصنف عالي الإنتاجية ومقاوم للآفات، فإن المخاوف لا تتوقف هنا، بل تتعداها إلى تأثيرات بيئية وصحية طويلة الأمد:
تغييرات في خصوبة التربة أو توازنها الميكروبي.
تأثيرات غير مدروسة على الحيوانات التي ترعى في الحقول بعد الحصاد.
انتقال آثار التعديل الوراثي إلى السلسلة الغذائية أو المنتجات الصناعية النسيجية.
ففي ظل غياب الفحوص الجينية والرقابة، تظل هذه الاحتمالات قائمة ومفتوحة.
القطن المعدل وراثياً... تجربة الهند إنذار لسورية؟
تجربة الهند مع القطن المعدّل وراثياً – وتحديداً صنف «BT Cotton» الذي طُرح في أوائل الألفية– تقدم مثالاً صارخاً على أنه كيف يمكن لمحصول معدل وراثياً أن يتحوّل من «حل زراعي» إلى أزمة اجتماعية واقتصادية حادة.
ففي البداية، أبهرت هذه الأصناف المزارعين بإنتاجيتها المرتفعة ومقاومتها للآفات، لكن مع مرور الوقت، بدأت تظهر آثار جانبية مدمّرة: اعتماد المزارعين الكامل على بذور الشركات الأجنبية- ارتفاع تكاليف الزراعة- انخفاض خصوبة التربة- وزيادة ظهور آفات جديدة أكثر مقاومة.
الأخطر من ذلك، أن آلاف المزارعين في مناطق من الهند– خصوصاً في ولاية ماهاراشترا– واجهوا أزمات ديون خانقة نتيجة فشل المحصول أو تكاليفه المرتفعة، ما أدى إلى معدلات انتحار مرتفعة في صفوفهم، وصلت إلى ما يُعرف إعلامياً «بـأزمة انتحار مزارعي القطن».
تجربة الهند هذه لا يجب أن تُقرأ كقصة بعيدة، بل كتحذير واضح في سياق «القطن المُرّ» السوري.
فحين تُزرع أصناف مجهولة المصدر بلا رقابة أو تقييم علمي، يُفتح الباب لتكرار الأخطاء نفسها: الاعتماد على مصادر خارجية- غموض التأثيرات البيئية- وتهديد مباشر لسيادة الأمن الغذائي والاقتصادي.
حين يتحوّل القطن من مورد وطني إلى علامة استفهام
إن ما يطرحه تقرير «نورث برس» لا يجب أن يُفهم على أنه مشكلة محلية لفلاح في الرقة، بل هو نموذج مكثّف لانهيار منظومة الرقابة الزراعية في سورية، وسوء تقدير لمخاطر لا تبدو ظاهرة اليوم، لكنها قد تنفجر غداً على شكل أزمة بيئية أو صحية أو اقتصادية.
لذلك، فإن الرد المطلوب يتجاوز مجرد تصريح أو حملة تفتيش، ويجب أن يبدأ من:
تحقيق علمي شامل تشارك فيه جهات رسمية ومستقلة لتحليل البذور والتربة.
تنظيم سوق البذور بصرامة، ومنع أي تداول لأصناف مجهولة.
إعادة تمكين مؤسسات الدولة الرقابية والعلمية لتلعب دورها الطبيعي في حماية المحاصيل الاستراتيجية.
فالقطن ليس مجرد محصول زراعي، بل ركيزة من ركائز الاقتصاد الوطني، وحمايته من الغموض والتلاعب واجب وطني لا يقل أهمية عن أي ملف سيادي آخر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229