أزمة الرعاية الصحية ... عبء المعيشة وإهمال المؤسسات
لم تعد زيارة الطبيب خياراً سهلاً، بل أصبحت خطوة يُضطر إليها المواطن بعد استنفاد كل الحلول، أو عند مواجهة حالة طارئة لا تحتمل التأجيل.
تتعدد أسباب هذه الأزمة وتتشابك فيما بينها لتُشكل حلقة مفرغة من التحديات. فمن ناحية يُلاحظ ارتفاع في تكلفة الكشوف الطبية، ما يعيق وصول شريحة واسعة من المجتمع إلى الرعاية الصحية الأولية. يُضاف إلى ذلك غلاء الأدوية التي تُرهق ميزانيات الأسر. ولا ينتهي طريق المريض هنا، بل قد يمتد ليشمل تكاليف التحاليل المخبرية والصور الشعاعية.
من ناحية أخرى، تتفاقم الأزمة بفعل عوامل أخرى مثل تردي الخدمات في القطاع العام؛ فالمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية تعاني شحّاً حاداً في الموارد، ونقصاً في الكوادر الطبية والفنية، وتدهوراً في جودة المعدات، بالإضافة إلى ما تعرضت له من سرقة ونهب ممنهج على مدار سنوات طويلة، فضلاً عن عمليات الفصل التعسفي التي طالته في الآونة الأخيرة، والتي شملت اختصاصات طبية دقيقة.
تكاليف المعاينة... من الرفاهية إلى الكماليات
بإلقاء نظرة سريعة على عيادات الأطباء نلاحظ تذبذباً في الأسعار، حيث يحدد كل طبيب تسعيرته وفقاً لمجموعة من المتغيرات. ويلاحظ ارتفاع كبير في التخصصات النادرة (كالقلبية والأورام والأمراض المناعية)، فيما تعاني العيادات العامة من اكتظاظ شديد، فقد يؤجَّل موعد العلاج لشهور، ما يُعرّض حياة المريض للخطر من جهة، ويدفعه مرغماً نحو العيادات الخاصة.
وفي هذا السياق، نرى مثلاً أن طبيب عينية مشهور وذا سمعة حسنة في منطقة شبه شعبية يتقاضى خمسين ألف ليرة عن كل معاينة، بينما يتقاضى طبيب من الاختصاص نفسه في وسط العاصمة– وقد يكون أقل خبرة– ما لا يقل عن 100 ألف ليرة. ويُعزى هذا التباين إلى عوامل مختلفة، منها المنطقة والموقع الذي يؤثر على تكاليف التشغيل، إضافة إلى ديناميكية العرض والطلب على الكوادر الطبية، ونقصها في باقي المحافظات مقابل تمركزها في دمشق.
كما تتراوح كشفية طبيب الأطفال ما بين 40 ألف في المناطق الشعبية إلى حدود الـ 200 ألف. فيما أطباء القلبية، حدث ولا حرج، حيث تتراوح أجرة المعاينة ما بين 150 ألف وحتى 300 ألف ليرة! وليكن الله في عون من يحتاج إلى أدوية مستوردة أو ربما عملية جراحية، فلا يكون أمامه سوى استدانة المبلغ أو الاكتفاء بالتشخيص وتسليم أمره لله.
وإذا افترضنا أن المواطن تحصّل على دور في المشافي أو العيادات الحكومية، فقد أصبح لزاماً عليه نتيجة تدهور الخدمة وجودتها وفقر القطاع العام، المشاركة في تكاليف العلاج، خاصة الأدوية وبعض التحاليل الخارجية، وصولاً إلى شراء الإبر وأكياس الدم.
الأدوية... سلعٌ فاخرة
أصبحت الصيدليات أشبه بمتاجر الصاغة، حيث تُباع الأدوية بأسعار تفوق قدرة المواطن، يرافقها انخفاض متزايد في القدرة الشرائية، فيما لا تقل فواتير التحاليل والتصوير الشعاعي قسوة.
ورغم تصريح الهيئة الناظمة لأعمال قطاع التأمين باستئناف خدماتها بعد توقفها لعدة أشهر، مشيرة إلى البدء بتسديد مستحقات مزودي الخدمة الطبية، فإن عدداً كبيراً من الصيدليات والأطباء لم يتلقَ مستحقات التأمين الصحي بعد، علماً أن دائرة التأمين الصحي أشارت إلى أن عدد المؤمّن عليهم في سورية– سواء في القطاع الخاص أو العام– لا يتجاوز 5% من السكان، وهو مؤشر واضح على وجود فجوة كبيرة في توفير الحماية الصحية.
الرعاية الصحية في ظل غياب المعايير
لا يستند التفاوت في أسعار الخدمات الطبية في كثير من الأحيان إلى آلية معيارية واضحة، فهو يخلق– بالإضافة إلى ظواهر كتركز الخدمات في العاصمة وهجرة الكفاءات أو فصلها– ضغوطاً هائلة على المواطنين ويؤثر على حق الوصول إليها.
فغياب آلية تسعير أو إطار رقابي يفتح الباب أمام تقديرات فردية لا ترتبط ضرورة بالجودة، ويُفاقم من هذا الوضع غياب الدور الفعال للوزارة أو النقابات المهنية في وضع أطر تسعيرية واضحة وملزمة، بحجة «احترام المهنة» أو تجنب «التدخل في السوق»، وكأنما تخضع صحة المواطن لقوانين البورصة.
استنزاف الثروات البشرية
لقد سبق لمنظمة الصحة العالمية أن أفادت في بيانٍ سابق لها بأن نحو 65% من السوريين بحاجة إلى دعم صحي. إن هذا النقص في الدعم الطبي يهدد رأس المال البشري بشكل مباشر، فافتقار السكان إلى الرعاية الصحية يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة والمعدية.
كما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة، فيصبح الحصول على الرعاية الصحية حكراً على فئة معينة من المقتدرين مالياً، بينما يُحرم الفقراء من حقهم في الصحة، ما ينعكس سلباً على التنمية ويهدد بتدمير النسيج الاجتماعي.
لا بد من إعادة تعريف للأولويات، وجعل الصحة في صلب سياسات الحكومة، قبل أن يصبح المرضى أرقاماً في إحصائيات الوفيات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229